
دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: التاريخ السني والتاريخ الشيعي: الطبري والعقاد!!
عباس العقاد ومرمة تجميل صورة عمرو بن العاص!!
دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: التاريخ السني والتاريخ الشيعي: الطبري والعقاد!!
سؤال وردني من شخص يصف نفسه بالباحث عن الحقيقة مفاده: كيف يمكننا أن نحكم على صحة ما أورده المؤرخون الشيعة والسنة في كتبهم حيث يدعي كل فريق لنفسه الصحة والصواب؟!.
هل حقا اختلق المؤرخون الشيعة وقائع ومرويات أورد المؤرخون السنة عكسها تماما أو قاموا بنفيها من الأساس؟!.
السؤال هو: هل يمتلك الشيعة تأريخا خاصا بهم؟!.
الجواب قطعا لا!!.
صحيح أن هناك مصادر تأريخية عند الشيعة لا يكترث الآخرون لها مثل كتاب سليم بن قيس الهلالي وهو كتاب منشور ومتداول يحكي تفاصيل إضافية لبعض الأحداث، جمعه سليم بن قيس، إلا أن ما ورد في هذا الكتاب وربما غيره لا يغير من جوهر الأحداث ولا من سياقها شيئا كثيرا، بل يقدم شرحا إضافيا لبعض هذه الأحداث.
عندما أقوم أنا بالكتابة عن أي مسألة تاريخية بدءا مما حدث في سقيفة بني ساعدة ومقتل عثمان بن عفان وواقعة الجمل وصفين والنهروان فالمصادر التاريخية المسماة بالسنية كافية ووافية بالغرض ولا حاجة لنا للتفتيش عن (أسرار) لم ترد بها!!.
ألم يروي البخاري وغيره عن عمر بن الخطاب قوله (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه)؟!.
ألم يروي مسلم في (صحيحه) قول ابن الخطاب أن رسول الله ص يهجر؟!.
ما عسانا نصف هذه الأشياء وغيرها من الطوام؟!.
المخالفون لأهل البيت عليهم السلام لجأوا دائما لأسلوب التبرير والتمرير والتشويه وعندما تنعدم حيلتهم يلجأون لتلك التكشيرة الأموية البشعة التي تخفي وراءها إنذارا وتهديدا واضحا: اسكت وإلا!!.
تلك الأساليب المعوجة التي اتبعها من سبقنا من الأمم والتي حذر منها كتاب الله عز وجل:
(أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). (5) هود
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). (26) فصلت
معضلة التصنيف
الفارق واضح بين قراءة التاريخ قراءة سردية كما هو مدون في تلك الكتب المعروفة مثل الطبري وابن كثير وابن الأثير وقراءته قراءة تحليلية.
عندما نتناول واقعة مثل السقيفة وما تلاها ونقرأ في تلك المجلدات ونكتشف ألا فارق جوهري بين أغلبها فلم يسقط إلا بعض التفاصيل التي لا يمكن لها أن تغير جوهر الحدث.
مأساة الطبري!! هل كان الطبري شيعيا أم لم يكن؟!.
قطعا لم يكن شيعيا، لكن هذا لم يحمه من هجوم الحنابلة عليه وهم أجداد الوهابية المعاصرة وصولا إلى منع دفنه كما يروي ابن الأثير في كتابه (الكامل):
الكامل في التاريخ ابن الأثير ج9 ص 7
وفي سنة 309 هـ توفّي محمّد بن جرير الطبريُّ صاحب التاريخ ببغداد ومولده سنة 224هـ ودفن ليلًا بداره لأنّ العامّة اجتمعت ومنعت من دفنه نهارًا وادعو عليه الرفض ثمّ ادعوا عليه الإلحاد وكان عليٌّ بن عيسى يقول والله لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه وهكذا ذكره ابن مِسكويه صاحب تجارب الأمم وحُوشي ذلك الإمام عن مثل هذه الأشياء.
وأمّا ما ذكره عن تعصّب العامّة فليس الأمر كذلك وأنّما بعض الحنابلة تعصّبوا عليه ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم وسبَب هذا أنّ الطبريّ جمع كتابًا ذكر فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله ولم يذكر فيه أحمد بن حَنبَل فقيل له في ذلك فقال: لم يكن فقيهًا!!. وإنّما كان حَسدوا الفَتى إذ لم ينالوا سَعيّة فالناسُ أعداءٌ له وخُصومُ كضرائرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها حسَدًا وبَغيًا إنّه لَدَمِيمُ وقد ذكرت شيئًا من كلام الأئمّة في أبي جعفر يُعلم منه محلّه في العلم والثقة وحسن الاعتقاد فمن ذلك ما قاله الإمام أبو بكر الخطيب بعد أن ذكر مَن روى الطبريُّ عنه ومَن روى عن الطبريّ فقال: وكان أحد أئمّة العلماء يُحكم بقوله ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره وكان حافظًا لكتاب الله عارفًا بالقراءات بصيرًا بالمعاني فقيهًا في أحكام القرآن عالمًا بالسن وطرقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها عارفًا بأقاويل الصحابة والتابعين ومَن بعدّهم في الأحكام ومسائل الحلال والحرام خبيرًا بأيّام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك والكتاب الذي في التفسير لم يصنّف مثله وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة وأخبار من أقاويل الفقهاء وتفرّد بمسائل حُفظتْ عنه.
وقال أبو أحمد الحسين بن عليّ بن محمّد الرازيُّ: أوّل ما سألني الإمام أبو بكر بن خُزَيمة قال لي: كتبتَ عن محمّد بن جرير الطبريّ قلتُ: لا! قال: لِمَ؟! قلت كانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه فقال: بئس ما فعلت! ليتك لم تكتب عن كلّ مَن كتبت عنه وسمعت عنه.
وقال ابن خُزيمة حين طالع كتاب التفسير للطبريّ: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من أبي جعفر ولقد ظلمتْه الحنابلة.
وقال أبو محمّد عبدالله بن أحمد الفرغانيُّ بعد أن ذكر تصانيفه: وكان أبو جعفر ممّن لا يأخذه في الله لومة لائم ولا يعدل في علمه وتبيانه عن حقّ يلزمه لربّه للمسلمين إلى باطل لرغبة ولا رهبة مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد.
وأمّا أهل الدين والورع فغير منكرين علمه وفضله وزهده وتركه الدنيا مع إقبالها عليه وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلّفها له أبوه بطبرستان يسيرة ومناقبه كثيرة لا يحتمل ها هنا أكثر من هذا.
المهم أن الطبري عندما نقل في تاريخه الأحداث المتعلقة بمقتل عثمان بن عفان عندما تصدى للحديث عن مأساة أبي ذر تحت عنوان (أخبار أبي ذر رحمه الله تعالى) قال (وفي هذه السنة أعني سنة ثلاثين كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة وقد ذكر في سبب إشخاصه إياه منها إليها أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها) ثم قال نقلا عن السري عن سيف (أما العاذرون معاوية في ذلك وذكر روايتهم بالتفصيل) ثم قال (وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة كرهت ذكرها).
ومع ذلك فهو لم يكذب هؤلاء الآخرين بل نقل عنهم في بقية المواضع!!!.
فإن كانوا كاذبين فلماذا روى عنهم وإن كانوا صادقين فلماذا تجاهل رواياتهم وكرهها؟!.
السبب معلوم وهو أنها لا تتمشى مع الخط الإعلامي الأموي والجهد المستميت الذي بذله ذلك الإعلام في طمس الحقائق وتحويل الظالم إلى مظلوم والمظلوم إلى ظالم ومع كل ذلك فقد خرجت منظومة الروايات بالصورة التي سنحكيها لكم.
ورغم ذلك فقد اتهم الرجل بالتشيع ومنع دفنه نهارا واضطر القوم لدفنه في بيته!!.
عباس العقاد ومرمة تجميل صورة عمرو بن العاص!!
ولمن لا يعرف فالمرمة بكسر الميم هي مقاولة ترميم التشققات وإعادة دهان المباني القديمة وليست مقاولة بناء كاملة!!.
أحد الكتاب المعاصرين هو الأستاذ عباس محمود العقاد الذي رحل عن هذا العالم قبل ما يقارب الستين عاما والذي درسونا كتبه في الثانوية العامة (العبقريات)!!.
عندما تقرأ كتابه (عمرو بن العاص) تكتشف أنك أمام (صنايعي تشطيبات) ماهر، أستاذ في اللف والدوران حتى أن محامي حسني مبارك ينزوي ويتوارى أمام فنه وقدرته على التلوين!!.
معلوم من هو عمرو بن العاص ومن هي أمه (النابغة) العاهرة!!.
معلوم أيضا أن عمرو ليس لها أب معلوم بل ادعاه العاص بن وائل السهمي ومعلوم أيضا أن هذا الأصل الوضيع هم سر حقده على أهل بيت النبوة!!.
استخدم الأستاذ عباس العقاد مواهبه اللفظية في تبرير ما ارتكبه عمرو بن العاص ومحاولة تبييض صفحته السوداء وتقديمه كضحية للظلم الاجتماعي الذي لم يتعامل معه بإنصاف وحمله مسئولية جريمة ارتكبتها أمه التي كانت مجرد بغي مغلوبة على أمرها لا تملك خيارا مغايرا للقدر الاجتماعي الظالم!!.
يقول العقاد في كتابه (عمرو بن العاص): وعلى قدر ذلك الفخر بأبيه كان خجله من نسبه لأمه واجتراء الناس عليه بمسبتها كلما تعمدوا الغض منه والإساءة إليه.
فكان حساده والنافسون عليه يلاحقونه بذكرها وهو على دست الإمارة ومنبر الخطبة وخاطر بعضهم رجلا أن يقوم إليه فيسأله من أم الأمير فأمسك من غضبه وقال: النابغة بنت عبد الله أصاباتها رماح العرب فبيعت بعكاظ فاشتراها عبد الله بن جدعان ووهبها للعاص بن وائل فولدت فأنجبت فإن كانوا جعلوا لك شيئا فخذه!!.
ويؤخذ من بعض هذه المعايرات أنها كانت تؤجر للغناء بمكة فإن عمرا شتم أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بمجلس معاوية فانتهرته قائلة (وأنت يا ابن النابغة تتكلم وأمك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن للأجرة.. أربع على ظلعك واعن بشأن نفسك فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ولا كريم منصبها ولقد ادعاك خمسة نفر من قريش كلهم يزعم أنه أبوك فسئلت أمك عنهم فقالت كلهم أتاني فانظروا أشبههم به فألحقوه به.
ويروى –والكلام للعقاد- أنها كانت على صلة بالعاص وأبي لهب وأمية بن خلف وأبي سفيان فولدت عمرا فألحقته بالعاص وسئلت عن ذلك فقالت: إنه كان ينفق على بناتي.
وأيا كان شأن المبالغة في لغة الثلب والتعيير فالمتفق أنها كانت سبية مغلوبة على أمرها لم تقارف البغاء سقوطا منها وابتذالا لعرضها ومثل هذه لا تحسب عليها زلاتها كما تحسب على المرأة التي لها مندوحة عن الزلل وهي في موضع الصون والكرامة وانجاب هذه ومثيلاتها للنوابغ من البنين ليس مما يخالف المألوف من سنن النسب والوراثة[1]. انتهى النقل
والمعنى أن العقاد استخدم عبقريته في قلب المعايير وتحويل الجاني إلى ضحية لمجتمع ظالم متخلف عير العاهرة بعهرها رغم عبقرية ابن العاهرة وتفانيه ليس في خدمة الحق بل في هدم دولته وتحويلها إلى ركام.
يبقى السؤال: من الذي نقل هذه المخازي ودونها في كتب لا تزال معروضة أمام الناس؟ هل هم شيعة أم سنة؟!.
الله وحده هو العالم!!.
سؤال آخر: هل قرأ أغلب الناس التاريخ من مصادره سنية كانت أم شيعية أم أن أغلب معلوماتهم الضئيلة هي من خطب المنابر وكتب المرمات التي كتبها مقاولو الدهان؟!.
دكتور أحمد راسم النفيس
13/08/2022
[1] ص 11-12 عمرو بن العاص عباس محمود العقاد نهضة مصر ط 2002