دراسات النفيس

دكتور أحمد راسم النفيس يكتب عن: داء الإبادة بالتكفير بين الخوارج والمؤسسات

دكتور أحمد راسم النفيس يكتب عن: داء الإبادة بالتكفير بين الخوارج والمؤسسات

يقولون أن الإنسان كائن اجتماعي وهي حالة لا تتفرد بها الجماعة البشرية فالحيوانات تعيش ضمن قطيع والطيور تطير وتهاجر ضمن أسراب.

ليس الإنسان وحده من يحيا ضمن جماعة إلا أن الجماعة البشرية تمتاز عن السرب والقطيع بقلة ثباتها وكثرة انشقاقها والتنافس المحموم بين مكونات القبيلة البشرية الكبرى وصولا في كثير من الأحيان إلى شن حروب تدمير وإبادة لا تبقي ولا تذر.

لا ندري هل تتحاسد الحيوانات وهل ينجم عن هذا التحاسد قتل وإبادة كما يفعل أصحاب الجسوم البشرية والحقيقة الحيوانية (فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ وَ الْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ) حسب وصف الإمام الخبير علي ابن أبي طالب عليه السلام.

الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة عرقيا ودينيا ليست نادرة فهي كثيرة الوقوع كما أن التآمر بين القبائل البشرية والاتفاق بينها من أجل القضاء على شخص أو مجموعة من الأشخاص أو حتى إبادة عرق بأكمله ليست حالة استثنائية في التاريخ الإنساني ولولا ذلك لكان عدد البشر الذين يعيشون على ظهر الأرض أضعاف أضعاف العدد الحالي.

هل قام أحد قطعان الأسود أو حتى الخنازير بالتآمر على حفنة من أفراد القطيع مثلما حكى القرآن الكريم عن أولئك الذين تآمروا على نبي الله صالح عليه السلام؟!… (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). النمل 48-52.

شهد القرن العشرين حربان عالميتان هلك فيهما عشرات الملايين من البشر، رغم أننا لا نعرف بدقة معنى (حرب عالمية) وما هو عدد الدول المشاركة في حرب حتى توصف بالعالمية أو الكونية والشاهد أن أغلب الحروب التي شهدها التاريخ تدخل ضمن هذا الوصف خاصة بعد أن تطور السلاح ليصبح سلعة عالمية تتداولها الدول فيما بينها.

التوحش حد الرغبة في إبادة جماعة كاملة من البشر هو إحدى سمات السلوك البشري ولا نكاد نرى حيوانا هو منذ البدء حيوان يمكنه أن يمارس هذا العمل فالأسد وسائر الوحوش لا تفترس إلا إذا كانت جائعة.

وحده الوحش البشري الذي يقتل ثم يلقي بالجثث في العراء ليواصل مهمة التدمير والإبادة.

وحده الوحش البشري هو الذي يقتل بنفسه أو يكلف من ينوب عنه بالإبادة والقتل ثم يعلن (براءته) من القتل والإرهاب كما يفعل صهاينة الرياض وسلاجقة اسطنبول الذين بلغت بهم الجرأة والوقاحة حد إعلان أنهم وحدهم من يحارب داعش ولولاهم لما كان داعش ولا أم داعش!!.

القدرة البشرية العجيبة على الكذب والمراوغة وادعاء الشيء ونقيضه تجعل من التوحش الحيواني حالة مخففة يمكن التعاطي معها إذا قورنت بالتوحش (الإنساني) الذي يضيف لقدراته قدرة المراوغة والخداع وتنويم الفريسة كي تقتل في هدوء وصمت!!.

وحده الوحش البشري هو من احتاج إلى غراب يعلمه كيف يواري سوأة أخيه المقتول ظلما وحسدا (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) المائدة 31.

الحديث عن فكر أو معتقد هو المحرك والدافع الأساس لفكرة القتل والإبادة يعوزه الدقة ويتجاهل حقيقة النزوع الإنساني الذي يطلق طاقة التوحش حال توفر الظرف الملائم لممارسة هذا الإجرام.

أذكر قبل ثلاثين عاما لقاءا جمعني بالشيخ الراحل/ محمد الغزالي حكى فيه عن لقائه بأحد قادة ومؤسسي تلك الجماعات المسماة بالإسلامية وكان كفيف البصر واصفا إياه (لو لم يكن كفيفا لكان قاتلا)!!.

ليست مجرد نزعة للتسلط بل رغبة عارمة في الإبادة تبحث عن مختلفين وليس حتى مخالفين أي أن الرغبة في القتل قائمة بذاتها وليست نابعة وحسب من اختلاف الرأي أو المعتقد.

الآية 64 من سورة المائدة تكشف عن شهوة شر كامنة في النفس اليهودية، تدفعهم لتأجيج نار الحرب ضد من يبغضونهم خاصة المسلمين الأتقياء وأن هذه العدوانية المرضية ليست قاصرة على الآخرة فهي قائمة ومتأججة فيما بينهم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

هذه النار التي يسعى اليهود والمتهودون لإبقائها متأججة سعيا منهم للقضاء على النهج المحمدي الصافي، طريق آل بيت النبوة صراط الله المستقيم هي كما وصفها القمي في تفسيره: وقوله (كلما اوقدوا نارا للحرب اطفأها الله) كلما اراد جبار من الجبابرة هلاك آل محمد قصمه الله.

ألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، عداء أبديا نار تأكل بعضها تقوض بنيانهم وتحبط سعيهم وتجعل جهدهم هباء منثورا.

الآن نرى هذا المشهد المقزز الذي لا يتوانى فيه رئيس وزراء العدو الصهيوني عن التفاخر بتحالفه مع قطاع وازن من أدعياء العروبة والإسلام في مواجهة قطاع آخر بزعم الدفاع عن (السنة) الأبرياء في وجه العدوان (الشيعي) دون أن يجد ردا حازما يمنعه عن الاسترسال في غيه وتأجيجه لنيران العداوة والبغضاء بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة.

ولولا يد القدرة الإلهية التي لا تغفل ولا تنام ولم ولن تترك هذا الكون سدى لالتهمت نيران الحقد التي يشعلها الصهاينة وجود هذه الأمة وأبادتها ولكن هذا لم ولن يحدث بفضل الله وبقوته.

ما نراه الآن أمام أعيننا من تحريض يهودي على الفتنة والانشقاق بين المسلمين تحت غطاء مزيف وخادع هو الخطر الشيعي وفي رواية الخطر الإيراني هو تأويل واضح وصريح لهذه الآية الكريمة التي لا نراها تتحدث عن الماضي قدر تفسيرها لما يجري حاليا في أرض الواقع وللخطط والمؤامرات التي يرسمها ويعدها أعداء الأمة من اليهود وممن شاركهم الحقد والغل على أمة لا إله إلا الله، ممن يرغبون في محو وجودها وتدمير قوتها.

الذي نخلص إليه من هذه المقدمة، أن حالة القتل والسعار التي يؤججها بعض الدول والجماعات (الدينية) لا تنبع من أفكار دينية تجنح إلى التطرف وحسب بل تنبع في الأساس من حالة شبق حيواني للقتل وممارسة التوحش تغذيها وترعاها تلك الأفكار الإرهابية الإجرامية التي وجدت دوما من يرعاها ويغذيها ويعمل على استمرارها وليس العكس.

الأفكار الإرهابية التكفيرية الخوارجية هي الوقود الذي يغذي الحريق ويمنحه القدرة على الاستمرار وإحراق أكبر وأكثر ما يمكن من مساحات وموارد وإمكانات.

العدوان على عباد الله عبر وصمهم بالكفر هو أحد أخطر مظاهر الكبر وأسوأ وأحط وسائل وأساليب العلو في الأرض التي سلكتها النظم المستكبرة والجماعات الساعية للقفز على رؤوس العباد والتحكم في أقدارهم ومصائرهم.

التسلط على عباد الله ونفي صفة الإيمان عنهم هي آفة ابتلي بها بعض أصحاب الأديان السماوية الذين أرادوا نزع صفة الإيمان عمن لم يشاركهم ذات المفاهيم خاصة تلك المزيفة التي لا يمكن تعميمها عبر الحوار والإقناع ولا وسبيل لفرضها إلا عبر القهر والقمع والذبح العشوائي.

ارتبطت ظاهرة التكفير في تاريخنا بمسارين أساسيين ثابتين  ومسارات متجددة.

الأول هو محاولة السلطة الحاكمة التي انتزعت وجودها عبر الغش والتزييف ترسيخ هذا الوجود وشرعنته عبر إلغاء أي وجود معارض يملك حق الاختلاف في الرأي مثل تلك السلطة التي أنتجتها سقيفة بني ساعدة والتي سعت من خلال ما يسمى بحروب الردة لجعل الإيمان بها مرادفا للإيمان بالله عز وجل والاعتراض عليها ولو كان بالوسائل السلمية، كفرا بالله وردة تبيح قتل المعترضين وقطع رؤوسهم وسبي نسائهم.

أما الثاني: فهو التكفير الذي أبدعته الجماعات المتمردة على الناموس العام وهو ما بات يعرف بالخوارج.

الآن وفي هذه اللحظة التاريخية العصيبة التقى التياران الرسمي والجماعاتي وتوحدا في لحظة نادرة مشهرين سلاح التكفير بنوعيه في وجه فريق واحد من المسلمين حتى وإن بدا أن عامة المسلمين مستهدفون بهذا التيار التكفيري، إلا أن هذا الفريق هو المستهدف الأول من قبل التكفيريين الرسميين والشعبويين وهؤلاء المستهدفون من دون أدنى شك هم شيعة أهل البيت عليهم السلام.

أما الأسوأ من هذا فهو ذلك التحالف الكوني بين هؤلاء التكفيريين ومن يصفون أنفسهم بالعالم المتحضر وهو ما سهل لهؤلاء القتلة الذباحين القيام بمهمتهم!!.

التحالف الكوني بين التكفيريين والسلطويين الأمويين والاستكبار العالمي ليس تحالف مبدأيا بل هو تحالف انتهازي (ليس حبا في .. بل بغضا في …) ولذا فلا مجال للدهشة والعجب عندما نسمع أن داعش تتهيأ لغزو مملكة الشر الوهابي أو أن الولايات المتحدة شيطان العالم المعاصر الأكبر تقوم بقصف الدواعش لتجاوزهم الخط الأحمر الذي رسم لهم وهذا التنويه جوهري للغاية قبل أن نمضي في هذا البحث قدما.

التكفير السلطوي

المدخل لنشأة ظاهرة التكفير السلطوي هو قتال ما سمي بالطائفة الممتنعة أو مانعي الزكاة فقد أعلن الخليفة الأول الحرب على من أسماهم بمانعي الزكاة أو المرتدين فهل كان كل هؤلاء حقا من مانعي الزكاة ومن ثم أصبحوا من المرتدين؟؟

الثابت أن هؤلاء الناس لم يكونوا من المرتدين بل كانوا متريثين في إخراج زكاة أموالهم إلى الخليفة الجديد وهذا ما أثبتته البحوث التاريخية حيث يقول الدكتور (إحسان صدقي العمد) في بحثه (حركة مسيلمة الحنفي) الحولية الثانية الرسالة الثامنة والخمسون كلية الآداب جامعة الكويت 1989 (وربما كان الشيخ علي عبد الرازق من أوائل الباحثين الذي حاولوا التفريق بين من رفض بيعة أبي بكر ودفع الزكاة إلى عماله وبين من ارتد عن الإسلام وبين من ادعى النبوة منهم ويدخل مسيلمة الحنفي في الفئة الأخيرة من هؤلاء إذ يقول (الشيخ علي عبد الرازق) وقد نرى في مشاهداتنا أن دعوى النبوة ليست بعيدة من المضلل الغوي إذا هو لقي انجذابا من العامة وأغوى منهم صحابا وأحبابا ولا شيء أسهل عند العامة من الإيمان بنبوة هذا الغوي إذا عرف كيف يغويهم بالضلال ويمدهم في الغي) وقد عرف مسيلمة بالفعل كيف يغوي بني حنيفة ويضلهم أما “جواد علي” والكلام ما زال “لإحسان صدقي العمد” فيرى أن جملة الأخبار المتعلقة بمسيلمة لا تفيد أنه اعتنق الإسلام أصلا وبالتالي لا يصح وصفه بالمرتد) ص 76.

إذن فوصف الردة ينطبق على الأسود العنسي وعلى مسيلمة الكذاب وعلى سجاح هذا إذا سلمنا بفرضية إسلامهم منذ البدء والدليل على ذلك هو قصة عيينة بن حصن الفزاري الذي أتي به أسيرا مجموعة يداه بحبل ينخسه غلمان المدينة بجريدة يقولون أي عدو الله أكفرت بعد إيمانك فيقول والله ما كنت آمنت بالله قط فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه تاريخ الطبري ج 3 ص 260.

فما هي قصة مانعي الزكاة؟؟.

ننقل عن ابن جرير الطبري حكايتهم قال:

وكان مما أوصى به أبو بكر قائد جيشه (خالد بن الوليد) إذا نزلتم منزلا فأذنوا وأقيموا فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة ثم اقتلوهم كل قتلة الحرق فما سواه!! (التعجب من عندنا) وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم وإن أبوها فلا شيء إلا الغارة ولا كلمة فجاءته الخيل بمالك بن نويرة وآخرين فاختلفت السرية فيهم فشهد أبو قتادة أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا فلما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا ثم أمر بهم فقتلوا فغضب لذلك أبو قتادة غضبا شديدا وعاهد الله ألا يشهد مع خالد بن الوليد حربا أبدا ثم (تزوج؟!) امرأة مالك بن نويرة أم تميم ابنة المنهال (في نفس الليلة) ثم قطعت رأس مالك وأثفوا برأسه القدر مع رؤوس الآخرين (أي وضعت بدلا من الأحجار التي توضع تحت قدر الطعام أثناء الطبخ) فما منهم رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكا فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة الشعر!! والعلامة من عندنا ويبدو أن عمر بن الخطاب رأى في هذه الجريمة (نوعا من التجاوز) فلما دخل خالد إلى المسجد في حالة من الخيلاء وقد غرز في عمامته أسهما وثب إليه ثائرا فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال له قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك ثم دخل على أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وأمر بدفع الدية إلى أهل مالك و رد سبيهم و لما ألح عليه عمر أن يعزله قائلا إن في سيفه رهقا فقال لا يا عمر  لم أكن لأشيم سيفا سله الله على الكافرين) [و يبدو أن هذا هو سر تسميته بسيف الله المسلول]. تاريخ الطبري ج3 ص 276-280.

نحن أمام واقعة بالغة البشاعة أسست لفقه التكفير والاستحلال والقتل وإحراق المعارضين بالنار لأن القوم يعتبرون الخليفة الأول مصدرا مستقلا من مصادر التشريع مثل الكتاب والسنة تلك الواقعة التي أسست بعد ذلك لقتال ما سمي بالطائفة الممتنعة فمالك بن نويرة قتل وانتهكت حرمته ومثلت بجثته لأنه من وجهة نظر هؤلاء كان ممتنعا عن أداء الزكاة أي كافرا ومن هنا جاء اللاحقون وساروا على نفس الدرب فأفتى لهم شيخ الإسلام ابن تيميه (أي إسلام هذا) بأن [كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة والمتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين فإذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن إقامة الصلاة أو الزكاة أو عن صيام رمضان أو حج البيت أو أو و أخذ يعدد الذنوب التي تبيح القتل و السحل فلم يبق شيئا حتى قال أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار] و هذا الكلام معناه أن من تسول له نفسه الاعتراض على الجريمة سالفة الذكر عد من الطائفة الممتنعة وجاز قتله وانتهاك حرمته وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المسار التكفيري الثاني هو المسار الخوارجي: البدايات الأولى.

روى ابن حجر في الإصابة عن أنس قال: كان في عهد رسول الله ص رجل يعجبنا تعبده واجتهاده فبينا نحن نذكره إذ طلع علينا فقلنا هو ذا فقال رسول الله ص إنكم لتخبرون عن رجل إن في وجهه لسفعة من الشيطان فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلم فقال له رسول الله ص أنشدك الله هل قلت حين وقفت على المجلس ما في القوم أحدا أفضل مني أو خيرا مني قال اللهم نعم.

كما أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال بينا نحن عند رسول الله ص وهو يقسم قسما قسما إذ أتاه ذو الخويصرة التميمي قال يا رسول الله اعدل فقال رسول الله ويلك ومن يعدل إن لم أكن أعدل فقال عمر ائذن لي فلأضرب عنقه فقال رسول الله ص دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته إلى صلاته وصيامه إلى صيامه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة يخرجون على خير فرقة من الناس قال أبو سعيد فأشهد أني سمعت الحديث من رسول الله وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي الذي نعته.

وفي رواية أخرى لأحمد بن حنبل (لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال).

وقد روى الشريف الرضي في نهج البلاغة قال: (لما قتل الخوارج قيل للإمام علي (ع) هلك القوم بأجمعهم فقال عليه السلام كلا والله إنهم لنطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء كلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين). شرح النهج ج1 ص427.

وقد روى النسائي في خصائص الإمام علي بن أبي طالب عن أبي سعيد الخدري نفس الأحاديث وإن بصيغ مختلفة (تمرق مارقة من الناس يلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق) وقوله صلى الله عليه وآله (تفترق أمتي فرقتين تمرق مارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحق).

روى النسائي في الخصائص عن زيد بن وهب عن علي بن أبي طالب (ع) قال لما كان يوم النهروان لقي الخوارج فلم يبرحوا حتى شجروا بالرماح (قتلوا جميعا) فقال علي رضي الله عنه اطلبوا ذا الثدية فطلبوه فلم يجدوه فقال علي رضي الله عنه ما كذبت ولا كذبت اطلبوه فطلبوه فوجدوه في وهدة من الأرض عليه ناف من القتلى فإذا رجل على يده مثل سبلات السنور فكبر علي رضي الله عنه والناس وأعجبهم ذلك. رواية 176.

وروى النسائي خبر المخدج أو ذو الثدية أيضا عن علي بن أبي طالب عليه السلام وعن غير طريق أبي سعيد الخدري (زيد بن وهب وعبيدة اليماني).

روى النسائي عن المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش أنه سمع عليا عليه السلام يقول: أنا فقأت عين الفتنة لولا أنا ما قوتل أهل النهروان وأهل الجمل ولولا أخشى أن تتركوا العمل لأخبرتكم بالذي قضى الله على لسان نبيكم لمن قاتلهم مبصرا ضلالتهم عارفا بالهدى الذي نحن عليه.

ملامح الشخصية الخوارجية:

كنا ولا زلنا نعتقد أن الخوارج (حالة) وليست فريقا مذهبيا.

حالة نفسية وأسلوب فكري وسلوكي في التعامل مع الآخر المسلم وانتزاع الأدلة من مواضعها لتخدم غرضا في نفوسهم المريضة.

أما المذهب فهو كيان فكري وفقهي له حدود وأبعاد يمكن تمييزه والتعرف إليه من خلال قرائتها والاطلاع عليها كما أن صاحب المذهب لن يخجل من الاعتراف بمذهبه وموقفه على عكس الخوارجي الذي سينكر تماما أي رابط بينه وبين ذلك الفكر أو تلك الحالة التي أوسعها المسلمون قديما وحديثا انتقادا وهجوما بل وأن عتاة الخوارج المعاصرين يصفون المتمردين عليهم بأنهم من الخوارج.

فما هي أهم صفات الخوارج؟؟.

  • التزام ديني شكلي صارم فهم لا يملون ولا يكلون من الصيام والقيام وقراءة القرآن ولكن شيئا من هذا لا يمتد بأثره إلى القلب الصخري القاسي.
  • صلف وغرور وتطاول لا يحده حد أو يقيده قيد وإذا كان هؤلاء الأجلاف قد تطاولوا على مقام النبوة ثم على مقام الإمامة المتمثل في علي بن أبي طالب عليه السلام فما بالك بمن هو دونهم وما بالك بعصاة المسلمين.
  • إنهم ليسوا أصحاب ديانة ولا أصحاب ورع حقيقي بل أصحاب شكل ديني جاءت به الأخبار والروايات و(نزعة عدوانية) (وادعاء وقح) بأنهم خير البشر وخير من في المسجد وأهل الهداية والرشاد والفهم الكامل الشامل للإسلام إلى آخر تلك المنظومة من المدائح الزائفة ولكن شيئا من ذلك لا يغير من حقيقة أنهم شر الخلق والخليقة بعدوانهم على مقام النبوة والإمامة ثم عدوانهم على عباد الله وحق الأمة ومحاولاتهم الابتزازية الدائبة للفساد تحت عناوين الإصلاح.

كان ما سبق حديثا عن المضمون الفكري الخوارجي وطريقتهم في التعامل مع غيرهم أما عن أشكال تحركهم فكانت كما يلي:

  • برفعهم شعار (إن الحكم إلا لله) في مواجهة إمام الحق علي بن أبي طالب ومن أين لهؤلاء الجهلة الأجلاف العلم والدراية بحكم الله حيث تبلغ الوقاحة ذروتها برفع الشعار في مواجهة إمام الحق ولكن يبقى أن حال الخوارج هو هُو أينما وحيثما رفعوا هذا الشعار من دون أن يكونوا مؤهلين لهذا التحكيم لا علما ولا خلقا بالترفع عن الأهواء والأغراض وهو ما يفتقدونه منذ البداية وحتى الآن.
  • بتكفيرهم لأمة لا إله إلا الله وإطلاقهم قذائف الأحكام عليها سواء كان التكفير واضحا جليا أم مبطنا تحت عناوين مختلفة مثل الردة والجاهلية.
  • باستباحتهم دماء المسلمين بناء على تكفيرهم.

من أين جاءت تسمية الخوارج؟؟.

الغالب على الذهنية الإسلامية العامة أن كلمة الخوارج هو وصف التصق بهؤلاء بسبب خروجهم على الإمام علي بن أبي طالب (أي أنهم خوارج لأنهم خرجوا ولو لم يخرجوا لما سموا بالخوارج ولو خرجوا على غير الإمام علي فهم ليسوا بخوارج!!) وهو كلام يفتقر إلى الدقة والموضوعية فهم أيضا المارقون (تمرق مارقة من الناس) وهم أحيانا (أهل النهروان) وهم تارة أخرى (الأزارقة) وأحيانا (المحكمة) وكل هذه أسماء تصف قوما من المسلمين تحلوا بهذه الصفات وبالتالي فهم خوارج (خرجوا عسكريا أو لم يخرجوا) كونهم خارجون على قواعد الشرع ومتمردون على الدين باسم الدين وأصحاب رغبة عارمة في التسلط على رقاب العباد بموجب إتقانهم للطقوس الدينية الشكلية ورفعهم للشعارات الإسلامية الخاوية من أي مضمون حقيقي وصولا إلى رافعي شعار (الإسلام هو الحل)!!.

ولنكمل الرواية حتى يعقل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

فلنبدأ من موقعة صفين تلك الحرب الأهلية التي اشتعلت داخل المجتمع المسلم.

لم تكن هذه الحرب هي الأولى من نوعها فقد سبقتها حرب الجمل بين الإمام علي عليه السلام ومناوئيه بقيادة عائشة وطلحة والزبير.

لم يكن الإمام يقاتلهم على الكفر وإنما قاتلهم بسبب بغيهم وتمردهم على القيادة الشرعية وإفسادهم في الأرض وسفكهم لدماء المسلمين الأبرياء ومن ثم فالضرورات الشرعية والأخلاقية الواقعية كانت تملي أسلوبا حازما في التعامل معهم فالشر لا يدفعه إلا الشر والقوة لا يجدي معها إلا القوة.

الخوارج كانوا في جيش الإمام علي بن أبي طالب كما كانت الغالبية العظمى من المسلمين فيه باستثناء تلك الفئات الباغية المتمردة التي حاربته يوم الجمل أو تلك التي وقفت منه موقف المتربص من أتباع ابن آكلة الأكباد والملتفين حوله من أهل الشام.

وبالتالي فالمغالطة التي يدعيها البعض من أن الخوارج كانوا من الشيعة هي مغالطة ساذجة إذ أن التشيع بهذا المعنى العام أي الانضواء تحت راية الخلافة الشرعية كان دين الغالية الساحقة من أبناء الأمة والمروق عن هذه الراية كان هو الاستثناء.

أما عن التشيع بمعناه العقائدي أي الولاء لأئمة الحق من آل محمد فهو مفهوم كان يومها قاصرا على خواص أصحاب الإمام من أمثال ابن عباس وعمار بن ياسر ومالك الأشتر ومحمد ابن أبي بكر والهيثم بن التيهان وميثم التمار وكميل بن زياد فضلا عن أبناء الإمام.

مسارات التكفير المؤسساتي

ظل تكفير المعارضين الرافضين للقهر السلطوي المتمثل في إكراه الناس على الإذعان (لدين ملوكهم) خطا يتجدد كلما احتاج هؤلاء الجبابرة لتلك الوسيلة الشيطانية والذرائع دائما موجودة ويمكن تغييرها وفقا لمتطلبات هؤلاء الأوباش.

التكفير الأموي

يروي ابن عبد ربه في (العقد الفريد): وكان عبدُ الملك بن مروان كتب إلى الحجاج في أسرىَ الجَمَاجم أن يَعْرضهم على السيف فمن أَقرّ منهم بالكَفر بخُروجه علينا فخلِّ سبيله ومَن زعم أنه مُؤمن فاضرب عُنقه‏.‏ ففعل‏.‏ فلما عَرضهم أُتى بشيخ وشابّ فقال للشاب‏:‏ أمؤمن أنت أم كافر قال‏:‏ بل كافر‏.‏ فقال الحجاج‏:‏ لكن الشيخ لا يرضى بالكُفر‏.‏ فقال له الشيخ‏:‏ أعن نَفسي تُخادعني يا حجاج والله لو كان شيء أعظَم من الكُفْر لرضيتُ به‏.‏ فضحك الحجاج وخلّى سبيلهما‏.‏ ثم قُدِّم إليه رجل فقال له‏:‏ على دين من أنت قال‏:‏ على دِين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين‏.‏ فقال‏:‏ اضربُوا عُنقه‏.‏ ثم قُدم آخر فقال له‏:‏ علىِ دِين من أنت قال‏:‏ على دين أَبيك الشيخ يوسف‏.‏ فقال‏:‏ أما والله لقد كان صوّاماً قوّاماً‏ خلِّ عنه يا غلام‏.‏ فلما خلّى عنه انصرفَ إليه فقال له‏:‏ يا حجاج سألتَ صاحبي‏:‏ على دين مَن أنت فقال‏:‏ على دين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين فأمرتَ به فقُتل وسألَتني‏:‏ على دين مَنِ أنت فقلتُ‏:‏ على دين أبيك الشيخ يوسف فقلتَ‏:‏ أمَا والله لقد كان صوّاماً قواماً فأمرتَ بتَخْلية سبيلي والله لو لم يكن لأبيكَ من السيئات إلا أنّه وَلد مثلَك لكَفاه‏:‏ فأمر به فقتل‏ ثم أتى بعامر الشَّعبيّ ومطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير وسَعيد بن جُبير‏.‏ وكان الشَّعبيُّ ومُطَرِّف يَريان التَّورية وكان سعيدُ بن جُبير لا يرى ذلك فما قُدِّم له الشعبيّ‏.‏ قال‏:‏ أكافرٌ أنت أم مُؤمن قال‏:‏ أَصلح الله الأمير نَبا بنا المنزل وأجْدب بنا الْجَناب واستحلَسَنا الخوفُ واكْتَحلنا السهر وخَبَطتْنا فِتنة لم نكن فيها بَرَرَةً أتقياء ولا فَجَرة أقوياء‏ قال الحجاج‏:‏ صَدق واللهّ ما برُّوا بخُروجهم علينا ولا قَوُوا خَلِّيا عنه‏.‏ ثم قُدِّم إليه مُطَرِّف ابن عبد اللّه فقال له‏:‏ أكافرٌ أنت أم مؤمن قال‏:‏ أصلح الله الأمير إنّ مَن شقَّ العصا ونَكَث البَيعة وفارق الجماعة وأخاف المُسلمين لجدير بالكُفر‏.‏ فقال‏:‏ صدق خلِّيا عنه‏.‏ ثم أتى بسَعيد بن جُبير فقال له‏:‏ أنت سَعيد بن جُبير قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ لا بل شقيُّ بن كُسَير‏.‏ قال‏:‏ أمي كانت أعلم باسمي منك‏.‏ قال‏:‏ شقيتَ وشقيتْ أمك قال‏:‏ الشقاء لأهل النار‏.‏ قال‏:‏ أكافر أنت أم مؤمن قال‏:‏ ما كفرت بالله منذ آمنتُ به‏.‏ قال‏:‏ اضربوا عنقه‏.‏

هكذا انتهى حفل التكفير الرسمي الذي أقامه الأمويون للمتمردين على دولتهم الجائرة بقطع رأس كل من تمسك بكونه مسلما فليس في هذا الكون مسلمون إلا من رضي الأمويون عنهم!!.

التكفير الوهابي

ارتدى التكفير الوهابي قناعا أكثر خبثا ودهاء من خلال وصف المسلمين المتعلقين بأضرحة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وأئمة أهل البيت بالشرك والوثنية وعبادة القبور ونعتهم بالقبوريين المشركين واعتبار المساجد التي تضم هذه الأضرحة الطاهرة معابد للشرك والأوثان يتعين إزالتها ومحوها من الوجود.

تمكن الوهابيون من إقامة الدولة السعودية الوهابية التي حاولت التمدد أولا عبر الغزو المسلح إلى الشام والعراق في محاولة لإخضاع أهل هذه البلدان وهدم المقامات الطاهرة لأهل البيت إلا أن محاولات الغزو المباشر باءت بالفشل في أوائل القرن التاسع عشر فكان أن لجأ النظام الوهابي السعودي لسياسة تصدير الوهابية بعد تغيير اسمها للسلفية التي يزعم البعض الآن أنها تنقسم إلى سلفية علمية وأخرى جهادية منفصلة تماما عن المؤسسة الوهابية الأم وأن السلفية الجهادية مسئولة عن تلك المصائب والجرائم أما السلفية العلمية والوهابية الأم فهي بريئة تماما من هذه البشاعات!!.

هل ثمة سلفية (علمية) بينما يقول الواقع أن الوهابية هي خليط تلفيقي من أسوأ الأفكار لا يستند لمنهج علمي ولا عقلي؟!.

أول هذه الحركات أو الجماعات الوهابية التي جرى تصديرها لمصر كانت جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها ووضع قواعدها الفكرية حسن البنا حيث يزعم البعض أنه كان رمزا من رموز الاعتدال.

القراءة المتمعنة للأصول الفكرية والعقدية لجماعة الإخوان ومن بينها ما يسمى بالأصول العشرين تقودنا إلى استنتاج قاطع وهو أن هذه الجماعة التي أسست بداية القرن العشرين مباشرة في أعقاب إقامة الدولة الوهابية السعودية في الجزيرة العربية شكلت جسرا ملكيا للعبور الوهابي نحو الساحة المصرية التي كانت تموج يومئذ بالتحولا الفكرية والسياسية، كما كانت مصر يومها تحت حكم أسرة محمد علي مركز المعارضة الأساس للوهابية لأسباب سياسية وعقدية.

شكلت جماعة الإخوان يومها حصان طروادة الذي مكن الوهابية بعد ذلك من اقتحام حصون مصر على يد تلميذ محمد رشيد رضا ذلك الشاب الصغير حسن البنا.

ولمن لا يعرف فإن محمد رشيد رضا قد تقلب بين خدمة الإنجليز ثم أصبح خادما للبلاط السعودي فقد كان يتلقى نظير ذلك دعما ماليا من السعودية حيث يقول في رسالته إلى الأمير شكيب أرسلان إنه قد (تلقى حوالة مالية من وكيل مالية الحجاز بمقدار 716 جنيه باقي المستحق له عن طبع الجزء السابع من كتاب المغني وأنه بصدد طبع الجزئين الثامن والتاسع ولكن تعوزه الأموال ولذا فقد كتب إلى الملك عبد العزيز وولده فيصل فاستاء كل منهما من تأخير المالية صرف مستحقاته وأمرا بإرسال جميع المستحق له كما أمر بطبع ألفي نسخة من كتاب الآداب ومجموعة رسائل المرسلين)[1].

على أن أخطر ما قام به رشيد رضا أنه كان حلقة الوصل بين الإخوان والوهابية في السعودية والإخوان المسلمين في مصر فجماعة الإخوان الوهابية التي نشأت في السعودية سنة 1912 انتقلت مؤثراتها السياسية وأفكارها الدينية إلى مصر عن طريق رشيد رضا الذي تتلمذ حسن البنا على يديه وارتبط بفكره السلفي وبمدرسة الدعوة ومجلة المنار .

ويعترف حسن البنا في مذكرات الدعوة والداعية بتأثير الشيخ رشيد رضا عليه وأنه كان دائم الحضور في مجالسه وأنه تأثر تأثرا كبيرا بما كانت تنشره المجلة وأن جماعة الإخوان المسلمين خرجت من عباءة رشيد رضا وحركته السياسية قد قادته وجماعته للارتباط بشكل أو بآخر بالمذهب الوهابي والنظام السعودي[2].

الأفكار

كانت هذا عن الأدوات أما عن الأفكار فلنرجع إلى التطابق أو الاقتباس الحرفي الذي قام به حسن البنا في أصوله العشرين وما دونه محمد بن عبد الوهاب في كتابه (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) الوهابي.

يقول (المعتدل) حسن البنا: الأصل الرابع :
والتمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب، وكل ما كان من هذا الباب، منكر تجب محاربته، إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة .

أما صاحب التوحيد الوهابي فيقول: باب ما جاء في الرقي والتمائم

في (الصحيح) عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) [رواه أحمد وأبو داود]. وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه). [رواه أحمد والترمذي].

الأولى: تفسير الرقي والتمائم.

الثانية: تفسير التولة.

الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء.

يقول حسن البنا (رمز الاعتدال!!) في أصله الرابع عشر :
وزيارة القبور أياً كانت سنة مشروعة، بالكيفية المأثورة، ولكن الاستعانة بالمقبورين، أياً كانوا، ونداءهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد والنذر لهم، وتشييد القبور، وسترها، وإضاءتها، والتمسح بها والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات، كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سداً للذريعة .

 

أما محمد بن عبد الوهاب فيقول في التوحيد: ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله روى مالك في (الموطأ): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: (أفرءيتم اللات والعزى) قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره، وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. [رواه أهل السنن].

فيه مسائل: الأولى: تفسير الأوثان… الثانية: تفسير العبادة.

الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.

الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.

الفارق بين الوهابية في صورتها النجدية والوهابية بعد تمصيرها على يد حسن البنا، أن ابن عبد الوهاب لم يكن ليمانع في (طس) كلمة كافر أو مشرك أو وثني بصورة متواصلة أما حسن البنا المعتدل فيستخدم أوصافا تكفيرية مخففة (بدع.. كبائر) قبل أن يوصي (رضي الله عنه) بشن الحروب عليها وهكذا يكون الاعتدال والوسطية وإلا فلا.

التكفيريون من التمرد إلى الحكم!!.

صاحب هذه السطور أحد الذين حذروا مرارا وتكرارا من تحول هذه الجماعات (المتمردة) إلى جماعات حاكمة ومثال ذلك النموذج السعودي.

الذين راهنوا على تعقل هذه الجماعات بعد استلامهم السلطة وتصرفهم كرجال دولة كانوا واهمين وكانوا كمن يراهن على تحول القرد إلى إنسان ونسوا أن الطبيعة الأصلية لهذا الكائن المشوه ستبقى هي هي لا يغيرها كرسي ولا دستور ولا قانون محلي ولا دولي.

السلوك الإخواني دوما كان سلوكا مذبذبا تائها بين التكفير الكامن في الذات الإخوانية والاعتدال الشكلي فهم يبرزون الوجه الذي يرونه ملائما لما يظنونه مصلحة الجماعة التي هي مصلحة الإسلام وفق رؤيتهم!!.

فعندما استلم الإخوان السلطة في مصر ونظرا لحاجتهم للتحالف مع الوهابيين الأقحاح (السلفيون) الذين يعلنون تكفيرهم للشيعة ويرون ذلك من أسس الدين وعلائم اليقين، أعلن محمد مرسي على لسان هؤلاء أن (الشيعة أخطر من اليهود والنصارى).

كان من السهل عليه أن يتنصل من إعلانه هذا لأنه لم يصرح به علنا، إلا أنه وعند زيارته للنظام السعودي الذي كان مرسي والإخوان يخطبون وده ويطلبون عفوه كشف بوضوح عن خبيئة سره قائلا (أن السعودية هي الراعي الرسمي لمشروع أهل السنة أما مصر فهي الحامية)!!.

كان كلام مرسي (القائد الأعلى للجيش المصري) إعلانا للحرب وهو أسوأ ألف مرة مما قاله السلفيون الذين لا يملكون إلا منابرهم وفضائياتهم وميليشياتهم.

ثم ذهب إلى مؤتمر عدم الانحياز في طهران مسفرا عن وجهه الطائفي الخبيث كما هو معلوم للجميع!!.

حدث هذا في الوقت الذي تحول نظام الإخوان الحاكم في مصر من موقف المتربص والمترقب لما يحدث في سوريا باسم الربيع العربي والثورة على الظلم إلى موقف المشارك في العدوان على هذا البلد العربي الشقيق الذي هو جزء لا يتجزأ من مصر.

ثم جاءت الكارثة الكبرى متمثلة في خطاب الصالة المغطاة التي بارك فيها مرسي الحرب على الشيعة (الأوساخ) وأعلن قطع علاقة مصر (نهائيا…. نهائيا) مع سوريا قبل أن تنطلق جحافل الإخوان والسلفيين لتنفذ مجزرة جماعية في حق الشيخ الشهيد حسن شحاتة ورفاقه تحت رعاية الأجهزة الرسمية العاملة تحت إمرة حكومة الإخوان.

لم تصدر حكومة مرسي يومها بيان يستنكر قتل الشيعة بل مجرد بيان إدانة لقتل مجموعة من المواطنين المصريين (كان يمكن قتلهم بطريقة أقل وحشية من هذا!!).

السعودية والإخوان: معركة الأصل والفرع

قلنا أن النظام السعودي الوهابي هو من أسس جماعة الإخوان عبر وكيله الحصري في مصر آنئذ محمد رشيد رضا ومن ثم فالعلاقة بين الطرفين من وجهة نظرنا هي علاقة بين الأصل والفرع.

لم يكن من الممكن أن تدخل الوهابية يومها إلى مصر عبر أصحاب اللحى الطويلة والقمصان القصيرة أو من خلال الشيخ محمد حامد الفقي مؤسس (أنصار السنة) الذي كان يرى أن ثورة 1919 بدعة وكل بدعة ضلالة وأن الأولى بالثوار أن يربوا بناتهم على الحجاب والنقاب بدلا من المطالبة برحيل الاحتلال.

كانت مصر وقتها تحتاج إلى أفندي وهابي يجذب السامعين بكلام منمق ومزوق يحمل السم الوهابي في العسل.

عندما أحست المؤسسة الوهابية الأم أن مصر قد تدحرجت من عرش الثقافة جاءوا إلينا بياسر برهامي ومحمد حسان ومن على شاكلتهم!!.

في حواره المنشور مع صحيفة «السياسة» الكويتية، في عددها الصادر بتاريخ 23 نوفمبر 2002، أطلق وزير الداخلية السعودي نايف بن عبد العزيز تصريحا رسم فيه مسار العلاقة المستقبلية مع الإخوان حيث قال: (جماعة الإخوان المسلمين أصل البلاء. كل مشاكلنا جاءت من جماعة الإخوان المسلمين، فهم الذين خلقوا هذه التيارات وأشاعوا هذه الأفكار مضيفا: عندما اضطهد الإخوان وعلقت لهم المشانق لجأوا إلى السعودية فتحملتهم، وحفظت محارمهم وجعلتهم آمنين، مبينا أن «أحد (الإخوان) البارزين أقام 40 سنة عندنا، وتجنس بالجنسية السعودية، وعندما سئل عن مثله الأعلى قال: حسن البنا! ويكمل نايف تعليقا على الغزو العراقي للكويت: جاءنا عبد الرحمن خليفة والغنوشي والزنداني، فسألناهم: هل تقبلون بغزو دولة لدولة واقتلاع شعبها؟ فقالوا: نحن أتينا للاستماع وأخذ الآراء).

والسؤال هو: من استفاد ممن؟!، هل كان الأمر على هذا النحو الذي تحدث به الوزير السعودي الهالك؟، أم أن السعودية الوهابية استفادت من الإخوان وسخرتهم لصالحها طيلة هذه الأربعين عاما رغم علمها بأن أعضاء الجماعة لا يعرفون لهم أبا ولا أما ولا إماما سوى حسن البنا؟!.

الجواب ليس مستحيلا بل ويظهر ضمن كلام نايف وهو أن الإخوان بدأوا يرسمون لأنفسهم مسارا مستقلا عن السلطة السعودية الهرمة بل ويعتبرون أن من حقهم (الاستماع وأخذ الآراء) مع من صنعوهم ووظفوهم لخدمة الدولة وترويج بضاعتها الوهابية في أوروبا وأمريكا وهاهم يرون الآن أن من حقهم التصرف بشكل مستقل.

هكذا فقد أثقل الفرع الأصل وكان لا بد من تقليص حجمه وليس قطعه نهائيا.

وبينما وقف السعوديون ضد إخوان مصر حيث الثقل الأساس لجماعة الإخوان نراهم يقفون مع الإخوان في سوريا حيث ما زال الفرع فرعا و(هيهات هيهات سيفان في غمد) كما قال قائلهم يوم السقيفة المشئوم!!.

الذي نخلص إليه: أننا نعيش وسط تكفيريات وليس نوعا واحدا من التكفير.

تكفير رسمي سلطوي بنيت على أساسه دول ما تزال قائمة وتكفير جماعاتي ترفده ذات الدول ويمده الاستكبار العالمي بشتى وسائل التمدد والبقاء بل ويراد من خلاله إعادة رسم خرائط المنطقة وإعادة توزيع ثرواتها باعتباره أضمن الطرق لإبقاء وإدامة الصراع بين المسلمين وتمزيق ما تبقى من شملهم.

المعضلة الحقيقية التي يجابهها المشروع الوهابي الأم الحاكم الآن في جزيرة العرب تتلخص في أن مشاريع استنساخ جماعات وهابية تحمل ذات الفكر التكفيري الدموي تنتهي دوما بكيانات منفصلة تسعى لتقويض وإزاحة الأصل وهو ما عبر عنه الباحث المتميز فؤاد إبراهيم في مقاله المنشور في الأخبار اللبنانية يوم الثلاثاء 19 أغسطس 2014 قائلا:

خطورة «الدولة الاسلامية داعش» تكمن في اعتناقها ذات المدّعيات العقدية وتبشيرها بنفس التعاليم الدينية التي صاغها المؤسس محمد بن عبد الوهاب، وتزيد على ذلك أنها تحمل في طياتها الوعد المؤجل منذ قرنين، أي إقامة دولة الخلافة، وصنع ما أخفق في صنعه مشايخ الوهابية والاخوان وحركة جهيمان ومشايخ الصحوة وقاعدة الجهاد في جزيرة العرب وغيرها من المحاولات الفردية والجماعية.
حارب آل سعود أنظمة الحكم الدينية بعد اندلاع الربيع العربي، وخصّصوا ميزانيات ضخمة لإسقاط حكم الاخوان في مصر كي لا ينشأ نموذج حكم إسلامي ينافس ويقوّض مشروعية النظام السعودي، ولكن برز إليهم من داخل المجال الوهابي من يحمل مشروعاً منافساً ويملك من الأفكار التحريضية، والمبررات الدينية، والقوة العسكرية والبشرية ما يجعله بديلاً محتملاً، وسط بيئة بدت كما لو أنها منقسمة على ذاتها، يكشف عن ذلك توجيه شباب على مواقع التواصل الاجتماعي دعوة الى أمير المؤمنين في «الدولة الاسلامية» للقدوم الى الحجاز لتحرير مكّة من آل سعود![3].
إنها ذات المشكلة التي واجهها الإرهاب السعودي مع الجماعة الإخوانية التي رأى البعض أن التحالف معها يمكن أن يشكل مخرجا للأمة الإسلامية من ورطتها الحالية (كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا).

الخلاصة:

تواجه أمتنا الإسلامية محنة وجودية تتمثل في علو التيارات التكفيرية التي كرست وجودها خلال العقود الأخيرة بسبب تضافر العديد من الظروف والملابسات وأهمها التحالف المبرم بينها وبين العلو اليهودي الأخير في الأرض.

رغم تأخر المواجهة العسكرية مع هذه التيارات ومجاولة البعض تفادي هذه المواجهة أو تأخيرها أطول فترة ممكنة، إلا أنها الآن اصبحت حقيقة واقعة لا مفر منها.

أما المواجهة الفكرية مع هذه التيارات التي لا تقل أهمية عن المواجهة العسكرية فلا يزال الاهتمام بها ضعيفا ومحدودا لا يتلاءم بحال مع هذا التهديد الذي يمتلك القدرة على الحشد والتجنيد.

دكتور أحمد راسم النفيس

المنصورة مصر

 

‏25‏/02‏/2017

‏السبت‏، 29‏ جمادى الأولى‏، 1438

 

[1] الإخوان المسلمون شعب الله المختار، أحمد راسم النفيس، دار أوراق 2013.

[2] [2] السعودية والإخوان المسلمون. دكتور محمد أبو الأسعاد. مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان ص 29-41 سنة 1996.

 

[3] http://www.al-akhbar.com/node/213722

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى