الدكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الإمام علي بن أبي طالب مفسرا للقرآن.. رجال الله
الدكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الإمام علي بن أبي طالب مفسرا للقرآن.. رجال الله
روى الشريف الرضي في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال عند تلاوته: (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) النور آية 37:
إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاَءً لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ، وَمَا بَرِحَ لله ـ عَزَّتْ آلاَؤهُ ـ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ، عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَة فِي الأسْمَاعِ وَالأبْصَارِ وَالأفْئِدَةِ، يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللهِ، وَيُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ، بِمَنْزِلَةِ الأدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ, مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ, وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَشِمَالاً ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ، وَحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ فَكَانَوا كَذلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَأَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ.
وَإِنَّ لِلذِّكْرِ لأهْلاً أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلاً، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْهُ، يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ، وَيَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، في أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ، وَيَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ وَيَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ، فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الآخِرَةِ وَهُمْ فِيهَا، فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طولِ الإقَامَةِ فِيهِ، وَحَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا، فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذلِكَ لأهْلِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لاَ يَرَى النَّاسُ، وَيَسمَعُونَ مَا لاَ يَسْمَعُونَ.
فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْـمَحْمُودَةِ وَمَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ وَقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ، وَفَرَغُوا لِـمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ، عَلَى كُلِّ صَغِيرَة وَكَبِيرَة أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا، أَوْ نُهوُا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فِيهَا، وَحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَارِهِمْ ظُهُورَهُمْ، فَضَعُفُوا عَنِ الاْسْتِقلاَلِ بِهَا، فَنَشَجُوا نَشِيجاً، وَتَجَاوَبُوا نَحِيباً، يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَم وَاعْتِرَاف، لَرَأَيْتَ أَعْلاَمَ هُدىً، وَمَصَابِيحَ دُجىً، قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَفُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّماءِ، وَأَعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ، فِي مَقْعَد اطَّلَعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَحَمِدَ مَقَامَهُمْ يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ، رَهَائِنُ فَاقَة إِلَى فَضْلِهِ، وَأسَارَى ذِلَّة لِعَظَمَتِهِ، جَرَحَ طُولُ الأسَى قُلُوبَهُمْ، وَطُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ. لِكُلِّ بَابِ رَغْبَة إِلَى اللهِ سُبحانَهُ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعةٌ، يَسْأَلُونَ مَنْ لاَ تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ، وَلاَ يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ.
فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الأنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ[1].
إنها الآية السابعة والثلاثين من سورة النور ولكي تتحقق الفائدة نورد الآية وما سبقها من الآيات وما جاء بعدها.
اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[2].
وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في تفسير هذه الآية “النور هو القرآن والنور اسم من أسماء الله تعالى والنور النورية والنور ضوء القمر والنور ضوء المؤمن وهو الموالاة التي يلبس لها نورا يوم القيامة والنور في مواضع من التوراة والإنجيل والقرآن حجة الله على عباده وهو المعصوم فقال تعالى (واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) سورة الأعراف فالنور في هذا الموضع هو القرآن ومثله في سورة التغابن (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) يعني سبحانه القرآن وجميع الأوصياء المعصومين من حملة كتاب الله تعالى وخزانه وتراجمته الذين نعتهم الله في كتابه فقال (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) فهم المنعوتون الذين أنار الله بهم البلاد وهدى بهم العباد قال تعالى (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة…..) فالمشكاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمصباح الوصي والأوصياء عليهم السلام والزجاجة فاطمة والشجرة المباركة رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم والكوكب الدري القائم المنتظر عليه السلام الذي يملأ الأرض عدلا) معجم أحاديث المهدي.
كما روى القمي في تفسيره: عن صالح بن سهل الهمداني قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في قول الله (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكوة) المشكاة فاطمة عليها السلام (فيها مصباح المصباح) الحسن والحسين (في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري) كأن فاطمة عليها السلام كوكب دري بين نساء أهل الأرض (يوقد من شجرة مباركة) يوقد من إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله السلام (لا شرقية ولا غربية) يعني لا يهودية ولا نصرانية (يكاد زيتها يضئ) يكاد العلم يتفجر منها (ولو لم تمسسه نار نور على نور ) إمام منها بعد إمام (يهدي الله لنوره من يشاء) يهدي الله للائمة من يشاء أن يدخله في نور ولايتهم مخلصا (ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم).
وروى أيضا: عن منخل عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قوله (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) قال هي بيوت الأنبياء وبيت على عليه السلام منها.
التفسيرات التي نقلناها عن أمير المؤمنين وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام تؤكد على الدور المركزي لأهل البيت في هداية الأمة وهي تفسير بالخاص وإذا كانت البيوت المقصودة في الآية هي بيوت الأنبياء فالرجال هنا هم آل الأنبياء وهم أئمة أهل البيت عليهم السلام.
إنه التفسير بالخاص الذي لا يناقض العام.
والمعنى أن مركزية النور لا تناقض انتشاره ولمعانه نحو الأقرب ثم الأقرب وصولا إلى كل بقعة يمتد وينتشر إليها هذا الفيض الإلهي الرباني.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاح وَاعِظ مُتَّعِظ، وَامْتَاحُوا[3] مِنْ صَفْوِ عَيْن قَدْ رُوِّقَتْ[4] مِنَ الْكَدَر[5].
وبقدر ما ينهل المؤمن من هذا النور الرباني ومن نبع الهداية الإلهي يصبح هذا النور مكونا من مكوناته ويصبح الصفاء الإلهي صفة من صفاته.
النور الإلهي والهداية الربانية لعباده المؤمنين المخلَصين هو جزء ومكون رئيسي من مكونات النفحة الربانية ورديفا للروح الإلهية المودعة في قلب الإنسان والتي تتصارع مع النفث الشيطاني فأيهما غلب ساق الإنسان في ناحيته واتجاهه إما نحو الله أو نحو الهاوية.
يقول تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ[6].
ولا شك أن الله تبارك وتعالى لم يأمر ملائكته المقربين بالسجود لبشر دخل في حزب الشيطان بل لبشر كان ما زال يومها يحتفظ بفطرته الصافية النقية فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا شك أن المؤمنين الأخيار ما زالوا يحملون في نفوسهم هذه الروح النقية الطاهرة التي تمكنهم من الصمود في مواجهة الهجمات الشيطانية العارمة فيَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ[7].
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[8].
أما إذا كسب الشيطان معركته ونجح في جر الإنسان إلى حزبه ومعسكره فستكون أولى ثمار انتصاره هو تبدل الخلقة الإنسانية وخروجها عن مسار الفطرة التي فطر الله الناس عليها وانزواء هذه الروح الطاهرة وتحول الإنسان إلى مسخ يعف اللسان عن وصفه.
كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ[9].
الشاهد أن النور الرباني يمتزج بالروح الإلهية المودعة داخل قلب الإنسان ويرفعه إلى أعلى درجات الكمال حسب درجة الإيمان والإخلاص وعلى قدر أهل العزم تؤتى العزائم.
نعود لموضوعنا (رجال الله) وهم تلك الصفوة الطاهرة المقربة التي تدور في فلك النور الإلهي الصافي محمد وآل محمد وهم الذين تسلحوا بذلك السلاح الرباني وهو الذكر في مواجهة عدوهم وعدو الإنسانية وعدو الرسل والأنبياء إبليس اللعين.
إنهم يمثلون النموذج المستهدف من وراء بعث الأنبياء للناس (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)[10].
الذكر الذي جعله الله جِلاَءً لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ[11]، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ.
إن من أوليات أي معركة أن يسعى العدو لحرمانك من معرفة حقيقة الخطر الذي يتهددك فلا تسمع ولا ترى ما يخططه لك والأسوأ أن يحرض رجالك على التمرد عليك وعصيان أوامرك, أما الأكثر سوءا فهو فقدان مركز القيادة قدرته على السيطرة والتحكم في المقاتلين.
ويوم أن يحدث هذا فماذا بقي لك؟؟.
مركز القيادة هو القلب وأجهزة المخابرات هي السمع والبصر ومن ثم فالذكر هو سلاحك الرئيس في مواجهة الشيطان فتسمع وترى بقلبك الواعي ما يدور من حولك وما يدبر لك فتصبح قادرا على اتخاذ القرار الصائب الذي تنفذه بقية الحواس فتتحرك أدوات الحركة والتنفيذ حركة فاعلة واعية مدركة قادرة في الاتجاه الصحيح لتبعدك عن مواضع الخطر وعن فخاخ الشيطان المنصوبة في كل مكان من حولك.
إنها مقدمة لازمة لبيان ما يصنعه الذكر في نفوس وعقول الذاكرين وكيف أن الذكر يمنحهم حزمة من القابليات الذهنية والروحية يفتقدها الغافلون عن ذكر الله.
(وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ)[12].
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[13].
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)[14].
معنى الذِكر
يقول الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن:
الذكر: هيئة للنفس تمكن الإنسان من حفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه والذكر يقال اعتبارا باستحضاره، وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول ولذلك قيل الذكر ذكران ذكر بالقلب وذكر باللسان وهما ضربان: ذكر عن نسيان. وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ.
وكل قول يقال له ذكر، فمن الذكر باللسان قوله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم)[15]، وقوله: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه)[16]، وقوله: (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي)[17]، وقوله: (أأنزل عليه الذكر من بيننا)[18]، أي: القرآن، وقوله: تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر)[19]، وقوله: (وإنه لذكر لك ولقومك)[20]، أي: شرف لك ولقومك، وقوله: (فاسألوا أهل الذكر)[21]، أي: الكتب المتقدمة. وقوله: (قد أنزل الله إليكم ذكرا *** رسولا)[22], ومن الذكر عن النسيان قوله: (فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)[23]، ومن الذكر بالقلب واللسان معا قوله تعالى: (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا)[24]، وقوله: (فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم)[25]، وقوله: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر)[26]، أي: من بعد الكتاب المتقدم.
وقوله: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا)[27]، أي: لم يكن شيئا موجودا بذاته، وإن كان موجودا في علم الله تعالى. وقوله: (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل)[28]، أي: أولا يذكر الجاحد للبعث أول خلقه، فيستدل بذلك على إعادته، وكذلك قوله تعالى: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة)[29]، وقوله: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده)[30]، وقوله: (ولذكر الله أكبر)[31]، أي: ذكر الله لعبده أكبر من ذكر العبد له، وذلك حث على الإكثار من ذكره. والذكرى: كثرة الذكر، وهو أبلغ من الذكر، قال تعالى: (رحمة منا وذكرى لأولي الألباب)[32]، (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)[33]، في آي كثيرة. والتذكرة: ما يتذكر به الشيء، وهو أعم من الدلالة والأمارة، قال تعالى: (فما لهم عن التذكرة معرضين)[34]، (كلا إنها تذكرة)[35]، أي: القرآن.
الذكر كما يقول الراغب الأصفهاني: هيئة للنفس تمكن الإنسان من حفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا أن الحفظ إحراز للمعرفة والذكر هو حضورها عند احتياجها، وتارة يقال لحضور الشيء في القلب أو بالقول ولذلك قيل الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان.
أي أن الحفظ هو إحراز المعرفة والذكر استحضارها والمعرفة هي معرفة الله تبارك وتعالى والوعي بأوامره ونواهيه وما يسخطه وما يرضيه وهي حالة مؤسسة على العلم والعقل ومن ثم فهي أشمل وأعم مما يسمى بحلقات الذكر أو مجالس الدعاء.
الذكر علم فاعل ونشط يبدأ من العقل ويمتد ليشمل القلب ويقود جوارح الإنسان ويشحذ إرادته في مسيره نحو الله.
الذكر معرفة إحاطة وهو أرقى أنواع المعرفة التي تبدأ من الأرض وترتفع إلى السماء (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ)[36] (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ)[37].
ولأن الذكر هو عكس الغفلة وهو معرفة راسخة في القلب تقترن بالعمل وهو الإيمان الصحيح عكس ما يفعل المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ومن ثم لا تتطابق أفعالهم مع أقوالهم لأن إيمانهم يسكن على أطراف ألسنتهم ولم يستقر يوما ما داخل قلوبهم بل أن قلوبهم تنكر ما تنطق به ألسنتهم (فَمِنَ الاِْيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِي بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالصُّدورِ)[38].
(إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ)[39].
آليات المعرفة:
يجيب أمير المؤمنين على هذا السؤال بأنهم: عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ.
إنها إذا معرفة عقلية متجددة ومتواصلة وليست معرفة تجريبية كما أنها ليست مستلهمة من عالم المثالية والخيال.
أيضا فالذكر (معرفة) تتكفل العناية والإرشاد الإلهي بتحديد مناهجها وليست دراسة حرة يختارها الإنسان حسب رغباته وسلم أولوياته فربما اتجه الإنسان إلى طلب نوع من المعرفة وأمضى فيه وقتا طويلا من عمره من دون أن يستفيد من هذا العلم بالدرجة التي تتناسب مع الوقت الذي أمضاه في تحصيله.
الأمر إذا كما قال الله تبارك وتعالى:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[40].
فالله تبارك وتعالى يصنع أولياءه على عينه ويرعاهم بإرشاده وتسديده وهدايته كما يرعى الوالد الشفيق ولده ويهتم بتعليمه ما يعينه على التقدم والرقي فضلا عن مواجهة أعباء الحياة وتكاليفها.
وقبل أن نسترسل في بيان طبيعة هذه المعرفة التي يلقيها الله في عقول الذاكرين وفكرهم لا بد أن نطرح سؤالا ونجيب عليه عن إمكانية التواصل المباشر بين الخالق والمخلوق وهل هو وحي يوحى؟!.
الجواب فيما ذكرناه سابقا في آية سورة البقرة (آية 257) وهو أيضا في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)[41].
يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: “تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون”, إخبار عما سيستقبلهم به الملائكة من تقوية قلوبهم وتطييب نفوسهم والبشرى بالكرامة فالملائكة يؤمنونهم من الخوف والحزن.
والخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه والحرمان من الجنة الذي يخشونه، والحزن إنما يكون من مكروه واقع وشر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها و الخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم فيطيب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئا أو يحزنوا لشيء فالذنوب مغفورة لهم والعذاب مصروف عنهم.
ثم يبشرونهم بالجنة الموعودة بقولهم: “و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون” وفي قولهم: “كنتم توعدون” دلالة على أن تنزلهم بهذه البشرى عليهم إنما هو بعد الحياة الدنيا.
قوله تعالى: “نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة” إلخ من تتمة البشارة، و على هذا فذكر ولايتهم لهم في الحياة الدنيا مع انقضاء وقتها كما تقدم من باب التوطئة والتمهيد إلى ذكر الآخرة للإشارة إلى أن ولاية الآخرة مترتبة على ولاية الدنيا فكأنه قيل نحن أولياؤكم في الآخرة كما كنا – لما كنا – أولياءكم في الحياة الدنيا و سنتولى أمركم بعد هذا كما توليناه قبل.
وكون الملائكة أولياء لهم لا ينافي كونه تعالى هو الولي لأنهم وسائط الرحمة والكرامة ليس لهم من الأمر شيء، ولعل ذكر ولايتهم لهم في الآية دون ولايته تعالى للمقابلة والمقايسة بين أوليائه تعالى وأعدائه إذ قال في حق أعدائه: “وقيضنا لهم قرناء” إلخ وقال في حق أوليائه عن لسان ملائكته: “نحن أولياؤكم”.
وبالمقابلة يستفاد أن المراد ولايتهم لهم بالتسديد والتأييد فإن الملائكة المسددين هم المخصوصون بأهل ولاية الله وأما الملائكة الحرس وموكلو الأرزاق والآجال وغيرهم فمشتركون بين المؤمن والكافر.
المعنى الذي ذكره العلامة الطباطبائي هو أن الخطاب الموجه من الملائكة لأولياء الله يكون عند موتهم وانتقالهم من الحياة الدنيا إلى العالم الآخر حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
إلا أن الآية التالية تكشف عن أن هذه الولاية والوساطة بين الله وأوليائه لم تبدأ لحظة الموت بل هي امتداد لعلاقة سابقة قائمة بين ملائكة التسديد المخصوصين بأهل ولاية الله وهؤلاء الأولياء.
ومن ثم فالحوار بين الملائكة وأهل الولاية يبدأ من اللحظة التي يتعلق فيها الإنسان بحبل ولاية الله.
في مقابل هذا التواصل القائم بين الله تبارك وتعالى وأوليائه عبر ملائكة التسديد والإرشاد فهناك تواصل مضاد بين الشيطان وحزبه (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)[42].
علاقة الولاية بين الله تبارك وتعالى وأوليائه لا تبدأ لحظة الموت بل تبدأ لحظة التعلق والارتباط بين الله وأوليائه بالولاية فهي حبل الله المتين وصراطه المستقيم وهي السبب المتصل بين الأرض والسماء.
لا عجب ولا غرابة إذا أن يتولى الله أولياءه بحفظه وعنايته ورعايته وإرشاده أفرادا كانوا أم جماعات فهو سبحانه (وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[43].
مدرسة الحكمة
امتلأ القرآن الكريم بالآيات التي تشرح وتحدد مهمة الرسل والأنبياء وأنها تهدف إلى رفع شأن البشرية وتزكيتها وتعليمها الكتاب والحكمة.
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ[44].
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ[45].
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ[46].
إنها دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام لربه أن يرسل إلى أمته رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.
الحكمة أيضا هي منحة منحها الله تبارك وتعالى لنبيه عيسى عليه السلام وبقية أنبياء الله العظام.
لقد استجاب الله تبارك وتعالى لأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام فبعث محمدا صلى الله عليه وآله إلى العرب الأميين ليعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويطهرهم.
من البديهي أن حرف الواو يعني العطف والمغايرة وأن عطف الكتاب على الحكمة يعني أن الأمر لا يتعلق بظاهر النص التشريعي الموجود بالفعل في كتاب الله والذي يقرأه كل من يعرف اللغة العربية سواء فهمه أم لم يفهمه.
السنة النبوية كما يفهمها كثير من المسلمين هي نص شرعي مكمل للقرآن الكريم ولسنا هنا في وارد مناقشة مفهوم السنة السائد لدى من يسمون أنفسهم بأهل السنة ولا طريقة جمعها, ولكننا نؤكد على أن كلمة الحكمة لا يقصد بها تلك التي يسمونها سنة والتي جُمعت بعد أكثر من قرنين من رحيل نبينا الأكرم محمدا صلى الله عليه وآله عن هذه الدنيا في كتب سميت بعد ذلك بالصحاح وأسبغ عليها هالة من القداسة تقارب قدسية كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
المهم أن إقرار القوم بأن كتب السنة تحتاج إلى تمحيص وتدقيق (لا يقدر على القيام به غيرهم!!) يعني إقرارا ضمنيا بوجود ما يحتاج إلى تصحيح وما يحمل بذور التناقض مع الصحيح ومن ثم يصبح التساؤل منطقيا عن مدى انطباق كلمة (حكمة) على مجموع ما في هذه الكتب رغم قناعتنا بأن صحيح هذه الكتب يندرج في إطار الكتاب والحكمة.
الحكمة هي منة من الله يهبها للأصفياء من عباده (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[47].
معنى الحكمة:
الحكمة كما يقول الراغب الأصفهاني: إصابة الحق بالعلم والعقل. حكمة الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام, أما الحكمة الإنسانية فهي معرفة الموجودات وفعل الخيرات وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله عز وجل (ولقد آتينا لقمان الحكمة)[48], ونبه على جملتها بما وصفه بها، فإذا قيل أن الله تعالى حكيم، فمعناه بخلاف معناه إذا وصف به غيره، ومن هذا الوجه قال تعالى: (أليس الله بأحكم الحاكمين)[49]، وإذا وصف به القرآن فلتضمنه الحكمة، نحو: (آلر تلك آيات الكتاب الحكيم)[50]، وعلى ذلك قال: (ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر… حكمة بالغة)[51]، وقيل: معنى الحكيم المحكم نحو: {أحكمت آياته}[52]، وكلاهما صحيح، فإنه محكم ومفيد للحكم، ففيه المعنيان جميعا، والحكم أعم من الحكمة، فكل حكمة حكم، وليس كل حكم حكمة، فإن الحكم أن يقضي بشيء على شيء، فيقول: هو كذا أو ليس بكذا، قال صلى الله عليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة) أي قضية صادقة وقال صلى الله عليه وسلم: (الصمت حكم وقليل فاعله) وقيل: فهم حقائق القرآن، وذلك إشارة إلى أبعاضها التي تختص بأولي العزم من الرسل، ويكون سائر الأنبياء تبعا لهم في ذلك وقوله عز وجل (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا)[53]، فمن الحكمة المختصة بالأنبياء أو من الحكم قوله عز وجل: (آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)[54]، فالمحكم ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى.
الحكمة والفلسفة
أما الدكتور مصطفى عبد الرازق فيقول (لا يفوتنا أن نشير إلى أن فلاسفة الإسلام استعملوا إلى جانب كلمة “فلسفة” اليونانية وما اشتق عنها كلمة “حكمة” العربية وما أخذ عنها فقالوا: حكمة وحكيم وعلوم حكمية)[55].
وينقل عن الفارابي (لما كانت الفلسفة إنما تحصل بجودة التمييز وجودة التمييز إنما تحصل بقوة الذهن على إدراك الصواب, كانت قوة الذهن حاصلة لنا قبل جميع هذا وقوة الذهن تحصل متى كانت لنا قوة نقف بها على الحق أنه حق يقين فنعتقده وبها نقف على الباطل أنه باطل بيقين فنجتنبه ونقف على الباطل الشبيه بالحق فلا نغلط فيه ونقف على ما هو حق في ذاته وقد أشبه الباطل فلا نغلط فيه ولا ننخدع والصناعة التي بها نستفيد هذه القوة تسمى صناعة المنطق)[56].
وينقل الدكتور عبد الرازق عن ابن سينا المتوفى 428 هـ تعريفه للحكمة في “رسالة الطبيعيات”: (الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية, فالحكمة المتعلقة بالأمور التي لنا أن نعلمها وليس لنا أن نعمل بها تسمى حكمة نظرية, والحكمة المتعلقة بالأمور التي لنا أن نعلمها ونعمل بها تسمى حكمة عملية, وكل واحدة من هاتين الحكمتين تنحصر في أقسام ثلاثة: فأقسام الحكمة العملية: حكمة مدنية, وحكمة منزلية وحكمة خلقية. ومبدأ هذه الثلاثة مستفاد من جهة الشريعة الإلهية وكمالات حدودها تستبين بها وتتصرف فيها بعد ذلك القوة النظرية في البشر بمعرفة القوانين واستعمالها في الجزئيات)[57].
أما الشيخ يوسف القرضاوي فينقل عن المفسرين معنى الحكمة فيقول: اختلف مفسرو السلف في معنى الحكمة في هذه الآيات فروى ابن جرير عن ابن وهب قال: قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال المعرفة بالدين والفقه في الدين والإتباع له, وروى ابن جرير عن قتادة أن الحكمة هي السنة وعن ابن وهب: الحكمة هي الدين الذي لا يعرفونه إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إياها والحكمة هي العقل في الدين.
وينقل عن صاحب تفسير المنار في معنى (ويعلمكم الكتاب والحكمة) أي الكتاب الإلهي أو الكتابة التي يخرجون بها من ظلمة الأمية والجهل إلى نور الحضارة والعلم. أما الحكمة فهي العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها الباعث على العمل بها وفسرها بعضهم بالسنة وهو غلط فإنها أي (الحكمة) أطلقت على بعض نصوص الكتاب كالعقائد والفضائل والأحكام الإيجابية والسلبية بدليل قوله تعالى بعد الوصايا المقرونة بعلل الأمر والنهي من سورة الإسراء (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً)[58].
ثم يقول: والحكمة يراد بها حسن الفهم للكتب والتفقه في أحكامها بحيث يعرف مقاصدها وأسرارها ولا يقف عند ظواهرها ويعرف ما وراء أحكامها وتوجيهاتها من المنافع والمصالح الجامعة لخيري الدنيا والآخرة وسعادة الفرد والمجتمع بحيث يدفع هذا الفقه المنشود إلى حسن العمل بها ووضعها في موضعها الملائم.
وهذه الحكمة هبة ونعمة من الله يؤتيها من يشاء من عباده كما قال تعالى (يؤتي الحكمة من يشاء )[59] وقد يعبر عن هذا الإيتاء الإلهي بالإنزال كما في قوله تعالى (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)[60] فليس المقصود هنا أن الله أنزل بها جبريل عليه السلام كالقرآن بل ألهم بها رسوله ومَن عليه, وفي تفسير قوله تعالى (يؤتي الحكمة من يشاء), قال الأستاذ: إعطاؤه آلتها –العقل- كاملة مع توفيقه لحسن استعمال هذه الآلة في تحصيل العلوم الصحيحة فالعقل هو الميزان الذي توزن به الخواطر والمدركات ويميز به بين أنواع التصورات والتصديقات فمتى رجحت فيه كفة الحقائق طاشت كفة الأوهام وسهل التمييز بين الوسوسة والإلهام[61].
استوقفني أولا ما نقله أو ما أقر به الشيخ القرضاوي من أن الحكمة هي هبة ونعمة من الله يؤتيها من يشاء من عباده, والمعنى أن ليس كل من سعى في تحصيل العلم والفقه صار من الحكماء.
أي ليس كل فقيه حكيم.
الحكمة هي منة وهدية من الله تبارك وتعالى لمن يستحقها من عباده (فمَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ وَلاَ كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ)[62].
كما أنه قد أقر بأن إدراك الحكمة لا يتحقق بمجرد الاطلاع على الكتاب والسنة كما يقول بعض المفسرين.
الحكمة الإلهية ليست علما مستقلا أو قائما بذاته بل هي طريقة في إدارة العلم والمعرفة تتيح للعقل استيعاب الحد الأقصى من العلم (معرفة واسعة) وهي أيضا أسلوب حكيم في التعامل والتعاطي مع الحقائق الكونية والدينية سواء كانت نصا سماويا منزلا أو خبرات تاريخية متراكمة أو رؤى مستقبلية توجب التصرف بأسلوب يوازن بين وقائع التاريخ والواقع المعاصر في إطار أخلاقي يحقق الأهداف العليا للدين وهي ميزة يحتاج إليها قادة الأمة الحقيقيون وليس المزيفون من أجل القيام بواجبهم الإلهي أي أنها (معرفة دراية وليست مجرد معرفة سرد ورواية).
الحكماء الإلهيون (رجال الله) يشكلون فريق عمل موحد ومتجانس حتى وإن تباعدت بينهم الأزمان والأماكن كونهم يدينون بالولاء لقائد رباني واحد بدءا بنبينا محمد صلى الله عليه وآله ومرورا بأئمة أهل البيت عليهم السلام واحدا بعد واحد.
الحكماء الإلهيون (رجال الله) هم قادة المستقبل الذين سيخلص الله بهم هذه الأمة من أمراضها وعللها التي أقعدتها عن المسير وجعلتها في ذيل الأمم فكأس الحكمة الذين تسقيهم إياه يد العناية الإلهية هو وحده القادر على شفاء الأمة من عللها وبلاياها الأخلاقية والفكرية وفكرهم هو فكر النهضة الذي يشحذ عزائم الرجال ويهديهم سوي الصراط ثُمَّ (لَيُشْحَذَنَّ فِيهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَيْنِ النَّصْلَ[63] تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ، وَيُرْمَى بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهمْ، وَيُغْبَقُونَ كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوح)[64].
دعك إذا من تخبط من يزعمون امتلاك الفهم الشامل الكامل للإسلام وادعاءهم الواهي بالقدرة على تخليص الأمة مما هي فيه وتصحيح مسارها وهم أبعد ما يكونون عن مدرسة الحكمة الإلهية, ناهيك عن أنهم لا يقرون بوجودها من الأساس!!.
ليس غريبا إذن أن نكمل الحديث عن الحكمة والحكماء مستضيئين بتلك الرواية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله التي رواها الترمذي وغيره.
روى الترمذي 3657: حدثنا إسماعيل بن موسى حدثنا محمد بن عمر بن الرومي حدثنا شريك عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن الصنابحي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا دار الحكمة وعلي بابها.
الحكمة الإلهية لها نبع واحد ومنهج واحد حيث لا يمكن للحكيم الرباني المتخرج من مدرسة أهل البيت أن يناقض أقرانه خريجي نفس المدرسة.
من هنا فالآيات القرآنية تؤكد على أن الحكمة هي منحة وهبة يمنحها الله لمن يشاء من عباده ولا يمكن أن تكون وساما يتبادله الأدعياء فيما بينهم.
علي بن أبي طالب والفلسفة الإلهية
يقول العلامة الطباطبائي: بعث الرسول صلى الله عليه وآله في عصر سماه القرآن بالجاهلية وكان عامة العرب آنذاك أميين لا يقرءون ولا يكتبون ولم يكن فيهم أثر للعلم والثقافة وليس لديهم شيء من المدنية بل كانت حياتهم فوضى وهمجية وأمة هذا حالها تكون مرتعا خصبا للجاهلية العمياء التي هي السم الناقع للفلسلفة الإلهية لأن العصبية تذهب باستعداد النفس لتقبل الحق. ومن الصعب جدا أن يتهيأ لأمة هذه حالها ظرف صالح يخرجها من ظلمة الجهالة وينفي عنها رذائل الأعمال المهلكة ويعوضها عنها (أولا) بالأعمال الصالحة ويلهمها (ثانيا) الحكمة والموعظة الحسنة لينتهي بها الأمر إلى الفلسفة الإلهية وعند ذلك يتم الكمال الإنساني وتلتقي سعادة الدنيا بسعادة الآخرة وأن إلى ربك المنتهى.
وإذا تتبع الباحث الناقد ما وصل إلينا من أخبار تفصل لنا أحوال صحابة النبي وتحكي أقوالهم يرى هذه الحقيقة التي أشرنا إليها رأي العين فإن أغلب هذه الأخبار قد تضمنت عرضا لأعمالهم الصالحة التي يبدو منها اتباعهم للسنة النبوية أو تتضمن أحداثا ترتبط بالدعوة الدينية وشئونها وقليل من هذه الأخبار يشتمل على الحكمة والموعظة الحسنة وتعاليم الدين وأما ما يشير منها إلى معرفة حقيقية ويرمز إلى فلسفة إلهية تأخذ الألباب وتشد القلوب وتربطها بسرادق العزة والكبرياء وساحة العز والبهاء فهو شاذ ونادر والحديث الذي يتعرض لهذا لا يتجاوز عدد أصابع اليدين وليس فيما ورثناه من كلام في المعارف إلا أخبار التجسيم والتشبيه أو التنزيه وبعض المعارف الساذجة البسيطة مع أن عدد من ترجم له من الصحابة يبلغ اثني عشر ألفا ولم تأل الأمة في النقل عنهم وإحصاء أقوالهم ورواياتهم.
لكننا نجد كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه افضل السلام يفيض بالمعارف الحقيقية وتحار فيه النفس الوالهة الخائضة في الفلسفة الإلهية ونجد أن الفكر الإنساني يلتقي ويرتقي معه إلى ان يصل إلى أوج مرتقاه حتى غذا كل ووقف كان كلامه السائر وحده في مراقي الحقيقة لا يشق له غبار ولا تناله الأوهام والأفكار.
ولا نعني بذلك توحد كلامه في بلاغته بل نعني به كلامه الذي يزخر بالمعارف الحقيقية والفلسفة الإلهية[65].
الحكمة والفلسفة الإلهية إذا هي منحة ربانية ولا قيمة ولا معنى لتوافق الأدعياء على منح هذا المقام كما تمنح الرتب والنياشين والجوائز لأناس لم يكن لهم من ميزة سوى إعراضهم وتجاهلهم لحكيم الأمة الأول وعالمها الرباني علي بن أبي طالب عليه السلام بدعوى أن (أمرهم شورى بينهم) وهم لا يمانعون بعد ذلك أن يستشهدوا بآيات القرآن التي تؤكد أن الحكمة هي عطاء واصطفاء واختيار إلهي ولا يمكن لأحد اكتسابها بمحض إرادته!!.
نريد أن نسمع منهم إجابة واضحة…….
هل الحكمة محض اكتساب؟؟!!.
أم أنها منحة إلهية كما قال سبحانه (يؤتي الحكمة من يشاء )؟!.
أما إذا كانت منحة إلهية وهي كذلك بالفعل ولا يمكن أن تكون غير ذلك وهي في آل الأنبياء عامة وآل إبراهيم وآل محمد خاصة (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً)[66].
وظيفة الأنبياء
يمكننا أن نزعم بعد هذا الشرح أن وظيفة الأنبياء هي تلاوة الكتاب أي تعريف الناس بالدين ودعوتهم للالتزام بأحكامه الظاهرة وتزكية الأمة وتطهيرها ودفعها نحو الترقي وهو الأمر الذي يتحقق عندما يلتزم المؤمنون بأحكام الدين وقواعده من فعل للحلال وترك للحرام.
أما مهمة تعليمهم الحكمة فتهدف لتأسيس تلك النواة الصلبة (رجال الله) أي الصفوة القادرة على قيادة الأمة والأخذ بيدها سيرا على الصراط المستقيم وصولا إلى تحقيق مرضاة الله في الدنيا والآخرة.
الذي نوقن به أن مهمة الرسل والأنبياء ليست مهمة عشوائية تقتصر على الإنذار والبلاغ وأن دورهم ووظيفتهم لا يمكن أن يغفل عن مهمة تربية الأمة وحفظ كيانها من خلال غرس تلك الأعمدة ونصب تلك الأوتاد التي تمنح الأمة عمودا فقريا وتجعل كيانها كيانا شامخا صلبا لا تزعزعه الأعاصير والرياح ولا يتلاعب به رموز الفتنة وتجار الفتن والأهواء… رجال الشيطان.
ولأن الحكمة هي نقيض السفه..
والحكماء هم نقيض السفهاء يشير القرآن الكريم إلى الدور الهام والخطير الذي يؤديه السفهاء في تدمير أي أمة أسلمت قيادها لهم فيقول عز من قائل:
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ[67].
من المعلوم أن بني إسرائيل قد خالفوا أمر نبي الله موسى عليه السلام الذي ألزمهم بطاعة وصيه وخليفته على قومه هارون عليه السلام فكان أن وقعوا في هاوية عبادة العجل وكان أن استحقوا جميعهم العقاب بمن فيهم تلك النخبة التي اختارها موسى وذهب معهم للقاء ربه.
الحكمة ليست مجموعة من المعارف النظرية والاصطلاحات الفلسفية التي يهوم بها (الفلاسفة والعرفاء) فالحكماء وحدهم هم من يملكون القدرة والمعرفة التي تؤهلهم للحكم بما أنزل الله إذ أن كل حكمة حكم وليس كل حكم حكمة وما أكثر الأحكام الطائشة والفاسدة التي يطلقها السفهاء المتسربلون بلبوس الفقهاء, المتمسحون بمسوح علماء الدين والشريعة وهي لا تعدو كونها حكم الهوى والشيطان.
الحكمة هي امتلاك الرؤية الثاقبة والنظرة الفاحصة التي تمكن صاحبها من اتخاذ القرار الصحيح في إطار الظروف الموضوعية التي يعيشها حكماء الأمة استشعارا لمسئوليتهم في حفظ الدين والدفاع عن المؤمنين بما يرضي الله عز وجل ويحقق العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ربما كان هذا القرار (الحكم) تضحية بأغلى وأعز ما يملكه الإنسان وهي النفس أو المال أو الوشائج الاجتماعية التي يحرص كل إنسان على الاستفادة منها.
ما زال المسلمون حتى هذه اللحظة – وبفضل هؤلاء السفهاء -منقسمون في رؤيتهم لثورة الإمام الحسين بن علي عليه السلام التي ضحى فيها بنفسه وولده حفاظا على الشرع والدين رغم أن هذه الحركة الحسينية المضحية قد حفظت للأمة معالم دينها ومكنت السائرين على درب الإمام الحسين من التمييز بين الحق والباطل والحقيقة والزيف.
ورغم أن الإمام الحسن بن علي عليه السلام قد تصرف بطريقة تبدو ظاهريا وكأنها في الاتجاه المضاد لأنه اختار أن يسلم الخلافة الدنيوية لابن آكلة الأكباد إلا أن المضمون والهدف الذي سعى الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام لتحقيقه واحد وهو حفظ الدين وما تبقى من المؤمنين.
في المقابل واستمرارا لنهج السفاهة التاريخي (سيقول السفهاء من الناس) فإن هؤلاء السفهاء لا وظيفة لهم إلا تسفيه حكماء الأمة ورجال الله والتشويش عليهم وقلب الحقائق معتبرين نهج الطغاة السفهاء هو المسار الطبيعي وهو (منطق الحكمة) الذي لا يجوز الخروج عليه ولا اعتراضه.
تماما كما قال الله تبارك وتعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)[68].
لذا فإن المطلع على كلمات أمير المؤمنين عليه السلام ووصاياه للمسلمين يرى بوضوح مدى اعتنائه بحث المؤمنين على اقتناص الحكمة وتعلمها وأنها ضالة المؤمن التي ينشدها ويبحث عنها ويطاردها في كل مكان على عكس السفهاء الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ف(الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، فَخُذِ الْحِكْمَةَ وَلَوْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ)[69].
وهو يوصي المؤمنين بألا يضيعوا كنوز الحكمة من بين أيديهم فيقول عليه السلام (خُذِ الْحِكْمَةَ أَنَّى كَانَتْ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ تَكُونُ في صَدْرِ الْمُنَافِقِ فَتَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ فَتَسْكُنَ إِلَى صَوَاحِبِهَا فِي صَدْرِ الْمُؤْمِنِ)[70]
وهو يصف رحلة رجال الله في طلب العلم والحكمة وأنها غايتهم التي لا يبغون عنها حولا: (قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا، وَأَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا، مِنَ الإقْبَالِ عَلَيهَا وَالْمَعْرِفِةِ بهَا وَالتَّفَرُّغِ لَهَا فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا, وَحَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا, فَهُوُ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الإسْلاَمُ، وَضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ)[71].
دور رجال الله في المجتمع المسلم
إنهم كما وصفهم أمير المؤمنين
أَدِلَّةِ الْفَلَوَاتِ (الصحارى).
ومَصَابِيحَ الظُّلُمَاتِ
ودليل المتحير بين الشُّبُهَاتِ..
ولذا فهم أَعْلاَمَ الهُدىً، وَمَصَابِيحُ الدُجى.
هذا هو الوصف الإجمالي لهم وهذه هي ألقابهم التي يتعين تقديمها بين يدي أسمائهم.
تفاصيل دورهم:
فهم يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللهِ، وَيُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ.
مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ (أي الصراط المستقيم والنهج القويم) حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ، وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَشِمَالاً ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ، وَحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ.
وَيَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، في أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ، وَيَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ وَيَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ.
ماذا لو افترضنا أن أمة من الأمم يقودها أناس يتمتعون بتلك الصفات ويمتلكون تلك القدرات والملكات التي ذكرها الفارابي؟!.
أناس يمتلكون قدرة وحكمة وعقلا يمكنهم من الوقوف (على الحق أنه حق يقين فنعتقده وأن الباطل باطل بيقين فنجتنبه ونقف على الباطل الشبيه بالحق فلا نغلط فيه ونقف على ما هو حق في ذاته وقد أشبه الباطل فلا نغلط فيه ولا ننخدع).
هل يمكن لهذه الأمة أن تتورط في المزالق والمهالك التي تورطت فيها أمة ما زالت تزعم أنها خير أمة أخرجت للناس رغم أنها لا تميز بين الحق والباطل ومن ثم فهي لا تقدر على الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر لأنها عاجزة عن التمييز بينهما من الأساس بفضل قيادات السوء التي تملك أمرها وتصوغ وعيها؟!.
ما قاله الفارابي عن الحاجة لامتلاك القدرة على التمييز بين الحقيقة والشبهة يتطابق مع ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لأنها تُشْبِهُ الْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمْ الضَّلالُ، وَدَلِيلُهُمُ الْعَمْى)[72] ومن ثم (فمَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ وَلاَ كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ)[73] ومن باب أولى ليس كل من ادعى العلم والفقه بعالم أو بفقيه ولا كل من تلبس لبوس الحكمة بحكيم ولا كل من رفع شعارات الإصلاح صار من المصلحين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)[74].
نحن أمام حكمة إلهية ليست كحكمة غير المتألهين الذين لا هم لهم إلا إصلاح شأن الإنسان في الحياة الدنيا وتحقيق الرفاهية والتقدم كما هو شأن الكثيرين في هذا العالم.
إنها حكمة تهدف إلى تحقيق السعادة الإنسانية الشاملة الكاملة التي تبدأ من الدنيا ولا تكتمل إلا بالوصول إلى ساحة الرضا والسعادة الإلهية حيث يتصالح الإنسان مع الكون صلحا نهائيا ويٌقتص للمظلوم من ظالمه وتسقط هذه القيود والأغلال الدنيوية الزائفة.
نحن أمام حكيم ملتزم بقضية كلية هي قضية الألوهية, يدور في فلكها ويذب عن حريمها ولا يرضى عن الجائزة الكبرى بدلا ولا يبغي عنها حولا فيبيعها ويتخلى عنها مقابل منصب في قصر أو جائزة يمنحها صاحب قصر وبعد أن أقعدتهم هذه الحكمة الإلهية والمنحة الربانية في (مَقَاوِمِهِمُ الْـمَحْمُودَةِ، وَمَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ) ليس لهم من همة إلا أن (ينَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ وَمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَة وَكَبِيرَة أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهوُا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فِيهَا، فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَتَجَاوَبُوا نَحِيباً يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَم وَاعْتِرَاف).
رجال الله لا يختلفون عن غيرهم من البشر الذين يرغبون دوما في أن يحمد سعيهم ولكنهم لا يرضون بالدون من مدائح أشباه البشر وهم لا يفتشون عن هذه المدائح في عالم الزيف السلفي عالم الشهرة الزائفة والشهادات المزورة فهم ينالون هذا بالفعل من خلال تواصلهم مع العالم العلوي ويكفيهم فخرا ورضا عن الذات أن تحَفّ بِهِمُ الْمَلاَئِكَةُ وَتتَنَزَّلَ عَلَيْهِمُ بالسَّكِينة، وأن تقر أعينهم بعلمهم أن أَبْوَابَ السَّماءِ مفتوحة لهم حيث أَعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ، فِي مَقْعَد اطَّلَعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ، وَحَمِدَ مَقَامَهُمْ.
(لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[75].
رجال الله (الذين أخذوا الذِّكْرِ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلاً، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْهُ يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ حَيَاتهم بينما يجري غيرهم وراء الدرهم والدينار) من حله ومن غير حله لا يمكن أن يكونوا من أثرياء هذه الدنيا!!.
إنهم فقراء إلى رحمة ربهم وهم أذلاء ولكن بين يدي ربهم وليس بين أيدي فقراء هذه الدنيا, المصابين بوهم الثراء, ظنا منهم أن بوسعهم الاستغناء عن واهب النعم ولذا فهم لا يلجئون إلى غيرهم ولا يطلبون من سواه (رَهَائِنُ فَاقَة إِلَى فَضْلِهِ، وَأُسَارَى ذِلَّة لِعَظَمَتِهِ لِكُلِّ بَابِ رَغْبَة إِلَى اللهِ سُبحانَهُ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعةٌ، يَسْأَلُونَ مَنْ لاَ تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ، وَلاَ يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ).
إن هذه الكلمات تكشف لنا عن سر آخر من أسرار تسميتهم برجال الله وهو التطابق بين ما يقوله هؤلاء الحكماء وما يفعلونه في سرهم وإعلانهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ)[76] إذ لا يمكن أن يكون رجال الله من المنافقين بحال من الأحوال ولا من الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلوبهم أنهم ألد الخصام.
أخيرا وليس آخرا فإن رجال الله ليسوا طلاب شهرة أو زعامة وما دفعهم للتصدي للشأن العام إلا قيامهم بالواجب الملقى على عاتقهم وخشيتهم من عقاب الله على عدم قيامهم بهذا الواجب.
الأمر ليس شهوة تسلط ولا رغبة في الهيمنة والتحكم ولذا كانت آخر سماتهم التي ذكرها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام هو تشددهم في محاسبة أنفسهم.
فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الأنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ.
دكتور أحمد راسم النفيس
16/09/2018مـ
الأحد، 06 محرم، 1440هـ
[1] نهج البلاغة خطبة 221.
[2] النور 35-38.
[3] امتاحوا: استَقُوا وانزِعوا الماء لريّ عطشكم من عين صافية صَفَتْ من الكَدَر.
[4] رُوِّقَتْ: صُفِّيَتْ.
[5] نهج البلاغة خطبة 104.
[6] سورة ص 71-72.
[7] من كلمات الإمام علي 139 نهج البلاغة.
[8] الروم 30.
[9] المطففين 14-16
[10] آل عمران 79.
[11] الوقرة: ثقل السمع والعشوة ضعف البصر.
[12] الزخرف 36-37.
[13] الأنعام 39.
[14] الجاثية 23.
[15] الأنبياء 10.
[16] الأنبياء 50.
[17] الأنبياء 24.
[18] ص8.
[19] ص 1.
[20] الزخرف 44.
[21] النحل 43.
[22] الطلاق 10-11.
[23] الكهف 63.
[24] البقرة 200.
[25] البقرة 198.
[26] الأنبياء 105.
[27] الدهر 1.
[28] مريم 67.
[29] يسن 79.
[30] الروم 27.
[31] العنكبوت 45.
[32] ص 43.
[33] الذاريات 55.
[34] المدثر 49.
[35] عبس 11.
[36] الحج 46.
[37] يونس 101.
[38] نهج البلاغة خطبة 189.
[39] النحل 22-23
[40] البقرة 257.
[41] فصلت 30-31.
[42] فصلت 25.
[43] البقرة 257.
[44] البقرة 129.
[45] المائدة 110.
[46] الجمعة 2.
[47] البقرة 269.
[48] لقمان 12.
[49] التين 8.
[50] يونس1.
[51] القمر 4-5.
[52] هود 1.
[53] المائدة 44.
[54] آل عمران 7.
[55] تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية. د مصطفى عبد الرازق. ص 49, مكتبة الأسرة. 2007.
[56] المصدر السابق ص 58.
[57] المصدر السابق ص61.
[58] الإسراء 39.
[59] البقرة 269.
[60] النساء 113.
[61] العقل والعلم في القرآن الكريم. مكتبة وهبة 1996. ص 197-201.
[62] خطبة 87 نهج البلاغة
[63] شحذ القين النصل: ما يقوم به الحداد من سن لنصل السيف أي حده.
[64] خطبة 150 نهج البلاغة.
[65] علي والفلسفة الإلهية, العلامة محمد حسين الطباطبائي. مؤسسة الثقلين. بيروت ص 33-35.
[66] النساء 54.
[67] الأعراف 155.
[68] البقرة 13-16.
[69] حكمة 75 نهج البلاغة.
[70] حكمة 74 نهج البلاغة.
[71] خطبة 182 نهج البلاغة.
[72] خطبة 38 نهج البلاغة.
[73] خطبة 87 نهج البلاغة
[74] البقرة 11-12.
[75] آل عمران 188.
[76] الصف 1-2.