دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: ثورة الأشراف بقيادة حصن الدين بن ثعلب ضد المماليك
دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: ثورة الأشراف بقيادة حصن الدين بن ثعلب ضد المماليك
لا يعرف أكثر الناس عن الأشراف سوى أن لهم نقابة يرأسها نقيب من آل الرفاعي وأنها تشارك في الاحتفال بالمولد النبوي والإسراء والمعراج.
تحدثنا سابقا عن دور السيد عمر مكرم نقيب الأشراف في إنهاء الحقبة المملوكية وتنصيب محمد علي واليا على مصر ومن ثم الدفع بمصر إلى العصر الحديث.
ربما كان هذا دافعا لقيام الزعيم الخالد بإصدار قراره بحل نقابة الأشراف واعتبارها كأن لم تكن، وفات الرجل أنه لولا عمر مكرم لما وجد نظاما ينقلب عليه ولما وجد أحزابا يقوم بحلها أو فسادا ليحاربه ولما وجد شيئا اسمه مصر على الإطلاق.
الأشراف هو المنتمون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهم ينتمون نسبا للإمامين الحسن والحسين عليهما سلام الله.
نقابة الأشراف هي أقدم نقابة في التاريخ الإنساني ويرجع وجودها إلى العصر العباسي وهي نقابة تهدف إلى الحفاظ على أنساب الأشراف وحقوقهم من الضياع.
الدور الذي قام به الأشراف في تاريخ مصر والعالم الإسلامي بقي مهملا من قبل المؤرخين المعاصرين الذين لا يتحدثون إلا عن اليسار واليمين والنهضة والاحتلال والأزهر والدين ولو استطاعوا لتحدثوا عن دور الإخوان المسلمين في طرد الفرنسيين!!.
الشريف حصن الدين بن ثعلب
ففي سنة 592هـ وما بعدها وأثناء الصراع الدائر بين أبناء صلاح الدين الأفضل من جهة والعزيز من جهة أخرى ثم بينهم وبين عمهم (العادل) حدثت مجاعة كبرى في مصر يحكي عنها المقريزي فيقول: كثر الأموات على الطرقات وزادت عددهم بمصر والقاهرة في كل يوم عن مائتي نفس وبقي بمصر من لم يوجد من يكفنه وأكثرهم يموت جوعا وعمد الضعفاء إلى شراء الجرار وغدوا إلى البحر وترددوا إليه ليستقوا منه في الجرار ويبيعوها بثمن درهم الجرة فلا يجدون من يشتريها منهم فيصيحون ”من يتصدق علينا بثمن هذه الجرة ومن يشتريها منا بكسرة” وزاد السعر وضاق الخناق وهلك الضعفاء وفشا الموت في الجياع.
وصار الموتى يحملون في أقفاص الطعام ولا يقدر على النعوش إلا بالنوبة وامتدت الأيدي إلى خطف ألواح الخبز ويضرب من ينهب ويشج رأسه ويسال دمه ولا ينتهي ولا يرمي ما في يده مما خطفه وغلت الأشربة والسكر وعقاقير العطار وغلظ الأمر في الغلاء وعدم القوت وكثر السؤال وكثرت الموتى بالجوع وشوهد من يسف التراب ومن يأكل الزبل وكثرت الأموات أيضا بالإسكندرية وتزايد وجود الطرحى بها على الطرقات وعدمت المواساة وعظم هلاك الأغنياء والفقراء وانكشاف الأحوال وشوهد من يبحث المزابل القديمة على قشور الترمس وعلى نقاضات الموائد وكناسات الآدر ومن يقفل بابه ويموت ومن عمي من الجوع ويقف على الحوانيت ويقول: أشموني رائحة الخبز وكثر الموت بحيث لم تبق دار إلا وفيها جنازة أو مناحة أو مريض واشتد الأمر وغلت العقاقير وعدم الطبيب وصار من يوجد من الأطباء لا يخلص إليه من شدة الزحام وصار أمر الموتى أكثر أشغال الأحياء وما ينقضي يوم إلا عن عدة جنائز من كل حارة وعدم من يحفر وإذا وجد لم يعمق الحفر فلا يلبث الميت أن تظهر له رائحة وصارت الجبانات لا يستطاع مقالتها ولا زيارة قبورها.
الشريف ابن ثعلب:
لم يكن هناك من مغيث للمصريين يومها إلا الشريف حصن الدين ابن ثعلب حيث يقول المقريزي (وعدم القمح إلا من جهة الشريف ابن ثعلب فإن مراكبه تتواصل وتبيع بشونه وفيه نودي في القاهرة ومصر بأن الشريف ابن ثعلب مقدم على الحاج فليتجهز أرباب النيات.وخرج الشريف ابن ثعلب سائرا بالحاج وخيم على سقاية ريدان).
أي أنه لم يكن هناك من يسد الفراغ الناشئ عن ذلك الانحلال الأخلاقي والسياسي والاقتصادي الذي عانت منه مصر يومها إلا ذلك الأمير الشريف حصن الدين بن ثعلب.
امتد العمر بذلك الرجل العظيم إلى أيام عز الدين أيبك الذي قتل على يد حرمه المصون الست المجاهدة أم خليل الشهيرة بشجر الدر وكان له تلك الثورة وذلك الموقف الذي تلهى عنه السادة المؤرخون المعاصرون ولم يذكروه بحرف واحد.
ثورة الأشراف:
إنها حادثة بالغة الأهمية والخطورة في التاريخ المصري الذي جرى تقديمه كله في إطار جولات الكر والفر بين هؤلاء المماليك الأوغاد من دون إن يجري إبراز شيء من مثالبهم تلك المثالب التي يمكن لها أن تلوث بحار العالم بل ومحيطاته.
انتهى حكم الأيوبيين بمصرع ذلك الفاسق المسمى توران شاه بعد أن أفرط في الظلم والفساد وجاء من بعده عز الدين أيبك التركماني الذي يصفه ابن تغري بردي بقوله (وكان ملكًا شجاعًا كريمًا عاقلًا سيوسًا كثير البذل للأموال أطلق في مدة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة حتى رضي الناس بسلطان مسه الرق وأما أهل مصر فلم يرضوا بذلك إلى أن مات وهم يسمعونه ما يكره حتى في وجهه إذا ركب ومر بالطرقات ويقولون: لا نريد إلا سلطانًا رئيسًا مولودًا على الفطرة).
أما أشراف مصر فكان لهم موقف رافض من هذا التحول نحو الأسوأ ففي سنة 651هـ قام الشريف حصن الدين ثعلب بن الأمير الكبير نجم الدين علي بن الأمير الشريف فخر الدين إسماعيل بن حصن الدولة مجد العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن أبي جميل الجمدي وقال: نحن أصحاب البلاد ومنع الأجناد من تناول الخراج وصرح هو وأصحابه: بأنا أحق بالملك من المماليك وقد كفى أنا خدمنا بني أيوب وهم خوارج خرجوا على البلاد وأنفوا من خدمة الترك وقالوا إنما هم عبيد للخوارج وكتبوا إلى الملك الناصر صاحب دمشق يستحثونه على القدوم إلى مصر. واجتمع إليه العرب – وهم يومئذ في كثرة من المال والخيل والرجال وأتوه من أقصى الصعيد وأطراف بلاد البحيرة والجيزة والفيوم وحلفوا له كلهم.
فجهز إليهم الملك المعز أيبك الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والأمير فارس الدين أقطاي المستعرب في خمسة آلاف فارس. فساروا إليه وبرز إليهم الأمير حصن الدين ثعلب فاقتتل الفريقان من بكرة النهار إلى الظهر فقدر الله أن الأمير حصن الدين تقنطر عن فرسه فأحاط به أصحابه وأتت الأتراك إليه فقتل حوله من العرب والعبيد أربعمائة رجل حتى أركبوه فوجد العرب قد تفرقوا عنه فولى منهزماً وركب الترك أدبارهم يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل فحووا من الأسلاب والنسوان والأولاد والخيول والجمال والمواشي ما عجزوا عن ضبطه وعادوا إلى المخيم ببلبيس.
ثم عدوا إلى عرب الغربية والمنوفية من قبيلتي سنبس ولواتة وقد تجمعوا بناحية سخا وسنهور فأوقعوا بهم وسبوا حريمهم وقتلوا الرجال وتبدد كل عرب مصر وخمدت جمرتهم من حينئذ. ولحق الشريف حصن الدين من بقي من أصحابه وبعث يطلب من الملك المعز الأمان فأمنه ووعده بإقطاعات له ولأصحابه ليصيروا من حملة العسكر وعوناً له على أعدائه فانخدع الشريف حصن الدين وظن أن الترك لا تستغني عنه في محاربة الملك الناصر وقدم في أصحابه وهو مطمئن إلى بلبيس. فلما قرب من الدهليز نزل عن فرسه ليحضر مجلس السلطان فقبض عليه وعلي سائر من حضر معه وكانت عدتهم نحو ألفي فارس وستمائة راجل.
وأمر الملك المعز فنصبت الأخشاب من بلبيس إلى القاهرة وشنق الجميع وبعث بالشريف حصن إلى ثغر الإسكندرية فحبس بها وأمر المعز بزيادة القطعية على العرب وبزيادة القود المأخوذ منهم ومعاملتهم بالعنف والقهر حتى ذلوا وقلوا .
إنها الواقعة التي سكت عنها مؤرخو السلاطين القدامى والمعاصرون ولم يذكرها لا الذهبي ولا ابن تغري بردي وذكرها المقريزي في السلوك فقد كان أقرب هؤلاء المؤرخين لمصر والمصريين نظرا لامتلاكه لحس أخلاقي وإنساني افتقده هذا الصنف من المزورين.
وما زال تاريخ مصر زاخرا بالأسرار المكتومة حرصا على صورة أسيادنا العبيد وحطا من قيمة الشرف والأشراف سواء كان شرف النسب أو شرف العراقة والحفاظ على القيم والأخلاق والتقاليد.
دكتور أحمد راسم النفيس
21-11-2005.