دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الإمام الحسن رجل الحوار والسلام ج2
دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الإمام الحسن رجل الحوار والسلام ج2
المواجهة بين الحق والباطل مواجهة مفتوحة
كثيرة هي النصائح التي وجهها الإمام علي بن أبي طالب لأمته عامة ولجمهوره خاصةعن طبيعة المواجهة بينهم وبين أهل الباطل وأن الصراع لن يحسم في عام أو عامين.
من ذلك ما رواه صاحب شرح نهج البلاغة ج1عن قيس بن الربيع، عن يحيى بن هانئ المرادى، عن رجل من قومه، قال: كنا في بيت مع على عليه السلام نحن شيعته وخواصه، فالتفت فلم ينكر منا أحدا، فقال: إن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فيقطعون أيديكم ويسملون أعينكم، فقال رجل منا: وأنت حي ياأمير المؤمنين؟ قال: أعاذني الله من ذلك فالتفت فإذا واحد يبكى فقال له: يا بن الحمقاء، أتريد اللذات في الدنيا والدرجات في الاخرة! إنما وعد الله الصابرين.
ومنها: (وَايْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ تَعْذِمُ بِفِيهَا وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَتَمْنَعُ دَرَّهَا لَا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لَا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ وَلَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلَّا كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَلَا عَلَمٌ يُرَى نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الْأَدِيمِ بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ وَلَا يُحْلِسُهُمْ إِلَّا الْخَوْفَ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونِيهِ)[1].
وهو يوضح أيضا لشيعته أن المواجهة طويلة وممتدة (حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا وَتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا وَلَا يُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَلَا سَيْفُهَا وَكَذَبَ الظَّانُّ لِذَلِكَ بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً)[2].
(وَاللَّهِ لَا يَزَالُونَ حَتَّى لَا يَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلَّا اسْتَحَلُّوهُ وَلَا عَقْداً إِلَّا حَلُّوهُ وَحَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ وَنَبَا بِهِ سُوءُ رَعْيِهِمْ وَحَتَّى يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ بَاكٍ يَبْكِي لِدِينِهِ وَبَاكٍ يَبْكِي لِدُنْيَاهُ وَحَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكُمْمِنْ أَحَدِهِمْ كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ وَ إِذَا غَابَ اغْتَابَهُ وَحَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَكُمْ فِيهَا عَنَاءً أَحْسَنُكُمْ بِاللَّهِ ظَنّاً فَإِنْ أَتَاكُمُ اللَّهُ بِعَافِيَةٍ فَاقْبَلُوا وَإِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)[3].
كما أن هذا الفراغ المتخيل الذي أحدثه بنو أمية بعجزهم وجهلهم وبغيهم وعدوانهم على أهل دعوة الحق سيفتح الأبواب أمام الأدعياء (فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ وَلَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا وَمُنَاخِ رِكَابِهَا وَمَحَطِّ رِحَالِهَا وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً)[4].
كثير من الفرق والتيارات ظهرت أو أخرجت إلى العلن لا لشيء إلا للتشويش على دعوة (الحق الممنوع والمقموع) والزعم بأنهم يملكون بدائل تغني الناس عن الوقوع تحت طائلة القمع الموجه ضد كل ما هو شيعي لينتهي الأمر دائما بكارثة تطال هذه الفئة.
رأينا كيف أخرج الحواة من جرابهم حركات الخوارج قديما وحديثا وكيف أقاموا دولا وهدموا أخرى وأزالوا حضارات ودمروا مكتبات، لا لشيء إلا ليبقى سيف بني أمية مسلطا على رقاب العباد وهو ما لخصه إمامنا علي بن أبي طالب في السطور السابقة.
ما كان هذا ليتحقق لولا تغلغل الفساد الأخلاقي والخلل العقلي بين ظهرانينا وفي قلوبنا وعقولنا.
ولأن (اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)، لم يكن هذا التغيير ليتم ويكتمل دون حدوث ذلك التكامل المنشود بين القيادة والجماهير فلا تنفصل القاعدة عن القيادة مثلما حدث في تلك الفصول المأساوية التي عاشها أئمة أهل البيت عليهم السلام.
مشاريع إبادة الشيعة
هي ليست أماني يسعى الوهابيون لتنفيذها فهي واقع عملي أنفق هؤلاء المليارات من أجل تحقيقه وكل هذا كان واضحا لمن كان له سمع أو بصر كما حدث في سوريا والعراق ولبنان.
أيضا فهي ليست بالشيء الجديد فهذا دأبهم منذ مئات السنين من لدن معاوية إلى محمد بن سلمان.
سنسمع أصواتا من هنا وهناك ومن بعض الشيعة (المعتدلين) تزعم أن بعض التوجهات الإيرانية هي سبب ما لحق بنا من بلاء.
وبغض النظر عن رأينا سلبا أو إيجابا في السياسات الإيرانية حيث يختلف تقييم هذه السياسة من شخص آخر إلا أن التاريخ يؤكد لنا أن خطط إبادة الشيعة سابقة على قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بل ومتكررة بشكل يكشف عن سابق قصد وتصميم مما ينفي تماما إمكانية أن تكون هذه الخطط مجرد ردة فعل على خطأ هنا وآخر هناك.
اللاهثون وراء مشاريع الحداثة التي يطرحها الغرب أو عن سلام في متناول اليد يمكن الحصول عليه عبر حوارات الفاتيكان ولجان الأمم المتحدة لا يرغبون في تصديق أن ثمة من يخطط ويعمل بجد ودأب لإبادتهم وتحويلهم إلى مجرد ذكريات في أضابير هذه اللجان لأننا في القرن الحادي وعشرين قرن الحضارة وووو!!!.
تقارير اللجان تقول شيئا والواقع يقول شيئا جد مختلف!!.
خذ عندك ما كتبه الصحفي البريطاني باتريك كوكبيرن في جريدة الإندبندنت البريطانية بتاريخ 21-7-2014 عن خطة إبادة الشيعة التي اعتمدها آل سعود والتي مهدت لاجتياح داعش للعراق ناقلا عن رئيس المخابرات البريطانية الأسبق السير/ ريتشارد ديرلوف الذي التقى رئيس المخابرات السعودي السابق بندر ابن سلطان وقت أن كان سفيرا للمملكة الوهابية في واشنطن، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 إبان الحكم البعثي في العراق حيث قال له (مليار مسلم “سني” في هذا العالم لم يعد بوسعهم تحملهم فترة أطول بعد الآن).
ويقول باتريك كوكبيرن: أن هذه اللحظة جاءت عندما اجتاح داعش الوهابي الموصل ونفذ العديد من المجازر الجماعية ضد التجمعات الشيعية في العراق مما أدى لإبادة الآلاف من الرجال والنساء والأطفال[5].
دعك إذا من الأساطير والخرافات التي يرددها البعض عن أخطاء إيران التي تسببت في (ردة فعل) السنة الغاضبين الذين يعانون من (التهميش) ومن سياسة (المالكي الطائفية) وغير ذلك من الخرافات التي أدمن البعض تكرارها هروبا من استحقاقات الواقع البائس المرير.
وقبل بضعة اشهر اضطر أهل (كفريا والفوعة) في سوريا لترك موطنهم بعد أن صمدوا في مواجهة حصار جائر فرض عليهم من قبل الجماعات الوهابية دام لمدة ثلاثة أعوام وكان لنا هذا المقال.
عن تهجير الشيعة من كفريا والفوعة والقدس!!
يقول تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) البقرة 84-85.
أخيرا وبعد أكثر من ثلاثة أعوام من الحصار المطبق الذي عانت منه بلدتي كفريا والفوعة التابعتين لمحافظة إدلب في الشمال السوري وعديد المحاولات التي تعرضت لها البلدتان من قبل الجماعات الإرهابية الوهابية فضلا عن القصف العشوائي الذي لم يسلم منه الحجر والبشر لا لذنب ارتكبه هؤلاء الأبرياء سوى أنهم من شيعة أهل البيت عليهم السلام.
هذه المرة اكتمل تنفيذ الاتفاق حيث أفشلت الجماعات الإرهابية اتفاقا سابقا في أبريل 2017 إثر تفجير إرهابي بسيارة مفخخة استهدف منطقة تجمع الحافلات التي تنقل أهالي بلدتي كفريا والفوعة في منطقة الراشدين غرب حلب. وأفاد مراسل المنار أن عدد الشهداء والجرحى تخطى الـ 220.
وأفادت وكالة سانا بأن إرهابيين فجروا سيارة مفخخة في منطقة تجمع الحافلات وسيارات الإسعاف التي تنقل 5 آلاف مواطن من أهالي كفريا والفوعة المتوقفة منذ أكثر من 24 ساعة في منطقة الراشدين.
ولفتت الوكالة إلى أن التفجير الإرهابي “تسبب باستشهاد وإصابة عشرات المدنيين أغلبهم من الأطفال والنساء ووقوع دمار كبير بالحافلات وسيارات الإسعاف”.
اليوم جرى إخلاء مئات من أعضاء جماعة ”الخوذ البيضاء“ السورية القاعدية العاملة في خدمة أمريكا وإسرائيل على وجه السرعة عبر الحدود إلى الأردن بمساعدة إسرائيل وقوى غربيةحيث قال رئيس وزراء الكيان الصهيوني في تسجيل مصور مقتضب، أنه تصرف بناء على طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وزعماء آخرين.
وأضاف ”قبل أيام قليلة تحدث إلي الرئيس ترامب وكذلك رئيس الوزراء الكندي (جاستن) ترودو وآخرون طالبين أن نساعد في إخراج الخوذ البيضاء من سوريا. حياة هؤلاء الأشخاص، الذين أنقذوا أرواحا، معرضة للخطر الأن. وبالتالي سمحت بنقلهم عبر إسرائيل إلى دول أخرى كبادرة إنسانية مهمة“.
أن تكون وهابيا عميلا للكيان فأنت مستحق للرحمة والتدخل الإنساني العاجل أما الشيعة فلا أحد سيتدخل لإنقاذهم أو حتى يستنكر ما تعرضوا له من غدر وإجرام.
في كتاب (تاريخ حلب) لكامل الحلبي الغزي: لم يزل يوجد في قضاء إدلب وجبل سمعان عدة قرى يقطنها الشيعة مثل كفرية الفوعة والنغاولة ونبل والغالب على أهل هذه القرى الثراء والغنى لطيب تربة أراضيهم وجودة معرفتهم بالفلاحة إلا أنهم ليسوا اصحاب نفوذ وهم إمامية اثنى عشرية وفيهم علماء يسافرون في طلب العلم إلى بغداد ومشهد الحسين، والفوعة قرية عظيمة تضاهي قصبة وأهلها معروفون بالتشيع من قديم الزمان وفيهم أولوا أنساب علوية عالية.
استقر سكان البلدتين في أراضيهم مئات السنين إلى أن هبت رياح عاد وثمود فاقتلعتهم من أرضهم وديارهم ظلما وعدوانا.
المخجل أن ما جرى على كفرية والفوعة في القرن الحادي والعشرين وقبلها نبل والزهراء هو ذاته ما جرى لبلدان أخرى ربما لا يتخيل المرء أنها كانت يوما ما ذات أغلبية شيعية.
من هذه البلدان مدينة القدس حيث يقول عارف باشا العارف في كتابه (تاريخ القدس): أصبحت القدس فاطمية سنة (969م) وكان فيها يومئذ عشرون ألفا من السكان جلهم من الشيعة وكانت مشهورة بخصب تربتها وصابونها وتينها وقطنها وعنبها ولكنها من الناحية السياسية كانت تالية في الأهمية لمدينة الرملة.
ومن المؤسسات الفاطمية في بيت المقدس (البيمارستان) وهو أول مستشفى أسس فيها وكان ينفق عليه مبالغ طائلة تأتي عن طريق البر والإحسان وكان بها أيضا دار العلم وهي فرع لدار الحكمة التي أسست في مصر عام 1004 للميلاد.
كما يذكر عارف باشا أن الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي قام بإعادة إعمار المسجد الأقصى بعد أن تعرضت المدينة لزلزال كاد يودي بقبة المسجد الأقصى لولا أنه ركض لتعميره فجاء أحسن مما كان عليه من قبل.
تعرض شيعة القدس ومسلموها عامة للإبادة بعد ذلك مرتين مرة على يد الأوباش السلاجقة أجداد أردوجان ثم على يد الغزاة الفرنج حيث شطبت تلك الحقيقة التاريخية من التاريخ ولم يعد يأتي أحد على ذكرها.
خلاصة القول أن العالم الإسلامي في حقبته الوهابية السوداء قد أصبحت أخلاقه أكثر انحطاطا من أخلاق أبي جهل وأبي لهب!!.
الإمام الحسن بن علي خليفة للمسلمين
ولما قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في عام 40هـ بايع المسلمون بالخلافة للإمام الحسن بن علي حيث يروي ابن الأثير: (وكان أول من بايعه قيس بن سعد الأنصاري وقال له:ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المحلين فقال الحسن: على كتاب الله وسنة رسوله فإنهما يأتيان على كل شرط فبايعه الناس وكان الحسن يشترط عليهم:إنكم مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت).
قال الشيخ المفيد (ولمّا قُبضَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ بايَعَه أصحابُ أبيه على حرب مَنْ حارَبَ وسِلْمِ مَنْ سالَمَ).
وبعد أن بويع له خطبَ الإمام الحسنُ بنُ عليٍّ صبيحةَ اللَيلةِ الّتي قُبِضَ فيها أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه وصلّى على رسولِ اللّهِ وآلهِ ثمّ قال:
«لقد قُبِضَ في هذِه الليلةِ رجلٌ لم يَسبِقْه الأوّلونَ بعملٍ ولا يُدرِكُه الآخِرونَ بعملٍ لقد كانَ يُجاهِدُ معَ رسولِ اللهِّ فَيقِيهِ بنفسِه وكانَ رسولُ اللهِّ صلّى اللهّ عليهِ وآلهِ يُوجِّههُ برايتهِ فيَكنُفُه جَبْرَئيْلُ عن يمينهِ وميكائيلُ عن يسارِه فلايَرجعُ حتّى يفتحَ اللهُ على يديهِ ولقد تُوُفِّيَ عليهِ السّلامُ في الليلةِ الّتي عُرِجَ فيها بعيسى بن مريم عليهِ السّلامُ وفيها قُبِضَ يُوْشَعُ بنُ نونٍ وصيُّ موسى وماخلّفَ صفراءَ ولابيضاءَ إلاّسبعمائةِ دِرْهمٍ فضلَتْ من عطائه، أرادَ أنْ يبتاعَ بها خادِماً لأهلِه» ثمّ خنقتْه العبرةُ فبكى وبكى النّاسُ معَه.
ثمّ قالَ: «أنا ابنُ البشيرِ، أنا ابنُ النّذيرِ، أنا ابنُ الدّاعي إِلى اللهِ بإِذنهِ أنا ابنُ السِّراجِ المنيرِ، أنا من أهلِ بيتٍ أذهبَ اللهُ عنهم الرِّجسَ وطهّرَهم تطهيراً، أنا من أهلِ بيتٍ افترضَ اللهُ حبَّهم في كتابهِ فقالَ عزّ وجلّ: (قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرَاً إلا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرف حَسَنَةً نَزِدْ لهُ فِيْهَا حُسْنَاً) فالحسنةُ مودَّتُنا أهلَ البيتِ».
ثمّ جلسَ فقامَ عبدُاللهِ بن عبّاسٍ رحمة اللهِّ عليه بينَ يديه فقالَ: معاشرَ النّاسِ هذا ابنُ نبيِّكم ووصيُّ إِمامِكم فبايعُوه. فاستجابَ له النّاسُ وقالوا: ما أحبَّه إِلينا وأوجبَ حقَّه عَلينا وتَبادَروا إِلى البيعةِ له بالخلافةِ وذلكَ يومِ الجمعةِ الحادي والعشرينَ من شهرِ رمضانَ سنةَ أربعينَ منَ الهجرةِ. فرتّبَ العُمالَ وأمر الأمراء، وأنفذَ عبدَاللّه بن العبّاسِ رضيَ اللهُّ عنه إِلى البصرةِ، ونظرَ في الأمورِ.
وسارَ معاويةً نحوَ العراقِ ليَغلِبَ عليه، فلمّا بلغَ جسرَ مَنْبِجَ تحرّكَ الحسنُ عليهِ السّلامُ وبعثَ حُجْرَ بنَ عَدِيٍّ فأمَر العُمّالَ بالمسيرِ،واستنفرَ النّاسَ للجهادِ فتثاقلوا عنه ثمّ خفَّ معَه أخلاطٌ منَ النّاسِ بعضُهم شيعةٌ له ولأبيه عليهما السّلامُ وبعضُهم ُمحكِّمةٌ (أي من الخوارج رافعي شعار إن الحكم إلا لله) يُؤثرونَ قتالَ معاويةَ بكلِّ حيلةٍ وبعضُهم أصحابُ فتنِ وطمعٍ في الغنائمِ وبعضُهم شُكّاكٌ وبعضُهم أصحابُ عصبيّةٍ اتَّبعوا رؤساءَ قبائلِهم لا يَرجعونَ إِلى دين فسارَحتّى أتى حَمّامَ عُمر، ثمّ أخذَ على دَيرِكَعْبٍ فنزلَ سَاباط دون القَنطرةِ وباتَ هناكَ.
فلمّا أصبحَ أرَادَ عليهِ السّلام أن يَمتحِنَ أصحابَه ويَستبرئَ أحوالَهم في الطّاعةِ له ليتميّزَ بذلكَ أولياؤه من أعدائه ويكونَ على بصيرِة في لقاءِ معاويةَ وأهلِ الشّامِ فأمرَ أن يُناديَ في النّاسِ بالصّلاةِ جامعةً فاجتمعَوا فصعدَ المنبرَ فخطبَهم فقالَ: «الحمدُ للهِّ بكلِّ ما حَمِدَه حامِدٌ وأشهدُ أن لا إِلهَ إِلاّ اللهُ كلَّما شهدَله شاهدٌ وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه أرسلَه بالحقِّ وائتمنَه على الوحيِ صلّى اللّه عليهِ وآلهِ.
أمّا بعدُ: فوَاللهِ إِنِّي لأرجو أن أكونَ قد أصبحتُ بحمدِ اللهِ َومنِّهِ وأنا أنصحُ خلقِ اللهِ لخلقهِ وما أصبحتُ محتملاً على مسلم ضغِيْنةً ولا مُريداً له بسوءٍ ولا غَائلةٍ ألا واِنَ ما تَكرهُونَ في الجماعةِ خير لكم ممّا تحبُّونَ في الفُرقةِ، ألا وَإنِّي ناظرٌ لكم خيراً من نَظرِكم لأنفسِكم فلا تُخالِفوا أمري ولا تَرُدُّوا عليَّ رأيي غفرَ اللهُ لي ولكم وأرشَدَنِي ِوإيّاكم لما فيه المحبّةُ والرِّضا».
فنظرَ النّاسُ بعضُهم إِلى بعض وقالوا ما تَرَوْنَه يرُيدُ بما قالَ؟ قالوا: نَظُنُّه واللهِّ يرُيدُ أن يُصالحَ معاويةَ ُويُسَلِّمَ الأمر إليه فقالوا: كفرَ واللهِ الرّجلُ ثمّ شدُّوا على فُسْطَاطِه فانتهبوه حتّى أخذوا مُصلاّه من تحتهِ ثمّ شدَّ عليه عبدُ الرحمن بن عبدِاللّهِ بنِ جِعَالٍ الأزْديّ فنزعَ مِطْرَفَهعن عَاتِقهِ فبقيَ جالساً متقلِّداً السّيفَ بغير رداءٍ.ثمّ دَعَا بفرسِه فرَكِبَه وأحْدَقَ به طَوَائفُ مِن خاصّتِه وشيعتِه ومنعوا مِنه مَنْ أرادَه فقالَ: «ادعُوا إِليَّ رَبيْعةَ وهَمْدانَ » فدُعُوا له فأطافوا به ودفعوا النّاسَ عنه وسارَ معَه شوبٌ منَ النّاسِ ، فلمّا مرَّ في مُظلمِ ساباط بَدَرَ إِليه رجلٌ من الخوارج فأخذَ بلجامِ بغلتهِ وبيدِه مِغْوَلٌ وقالَ: اللهُ أكبرُ أشركتَ يا حسنُ كما أشركَ أبوكَ من قبلُ ثمّ طعنَه في فخذِه فشقَّه حتّى بلغَ العظمَ فاعتنقَه الحسنُ عليهِ السّلامُ وَخَرّا جميعاً إِلى الأرضِ فوثبَ إِليه رجلٌ من شيعةِ الحسنِ عليهِ السّلامُ يقُالُ له عبدُالله بن خَطَلٍ الطّائي فانتزعَ المغولَ من يدِه وخَضْخَضَ به جوفَه.
وحُمِلَ الحسنُ عليهِ السّلامُ على سريرٍ إِلى المدائنِ، فاُنزلَ به على سعدِ بنِ مسعودٍ الثّقفيّ واشتغلَ بنفسِه يعُالِجُ جُرْحَه وكتبَ جماعةٌ من رؤساءِ القبائلِ إِلى معاويةَ بالطّاعةِ له في السِّرِّ وحثّوه على السّيرِ نحوَهم وضَمِنُوا له تسليمَ الإمام الحسنِ عليهِ السّلامُ إِليه عندَ دُنُوِّهم من عسكرِه أو الفتكَ به وبلغَ الحسنَ ذلكَ فازدادتْ بصيرته عليهِ السّلامُ بخذلانِ القوم له وفسادِ نيّاتِهم، ولم يبقَ معَه من يأمن غوائلَه إِلاّ خاصّة من شيعتهِ وشيعَةِ أبيه أميرِ المؤمنينَ عليه السّلامُ، وهم جماعةٌ لا تقومُ لأجنادِ الشّام.
فكَتبَ إِليه معاويةُ في الهُدْنةِ والصُّلحِ وأنفذَ إِليه بكُتُبِ أصحابِه التّي ضَمِنوا له فيها الفتكَ به وتسليمَه إِليه واشترط له على نفسِه في إِجابتهِ إِلى صلحِه شروطاً كثيرةً وعقدَ له عُقوداً كانَ في الوفاءِ بها مصالحٌ شاملةٌ فلم يَثِقْ به الحسنُ عليهِ السّلامُ وعلمَ احتيالَه بذلكَ واغتيالَه غيرَ انّه لم يَجِدْ بدّاً من إِجابتهِ إِلى ما التمسَمن ترك الحربِ وِانفاذِ الهدنةِ، لمِا كانَ عليه أصحابُه ممّا وصفْناه من ضعفِ البصائرِ في حقِّه والفسادِ عليه والخُلْفِ منهم له وما انطوى كثيرٌ منهم عليهِ في استحلالِ دمِه وتسليمهِ إِلى خصمِه وميلِ الجُمهورِمنهم إِلى العاجلةِ وزهدِهم في الآجلةِ.فتوثّقَ عليهِ السّلامُ لنفسِه من معاويةَ لتأكيدِ الحجّةِ عليه والإعذارِ فيما بينَه وبينَه عندَ اللهِ عزّ وجلّ وعند كافَّةِ المسلمينَ واشترطَ عليه تركَ سبِّ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ والعدولَ عنِ القُنوتِ عليه في الصّلواتِ ،وأنْ يُؤمنَ شيعتَه رضيَ اللهُ عنهم ولايتعرّضَ لأحدٍ منهم بسوءٍ، ويُوصِلَ إِلى كلِّ ذي حقٍّ منهم حقَّه فأجابَه معاويةُ إِلى ذلكَ كلِّه وعاهدَه عليه وحَلفَله بالوفاءِ به.
كما يروي ابن الأثير في الكامل:
تسلم معاوية الأمر لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة وقيل: إنما سلم الحسن الأمر إلى معاوية لأنه لما راسله معاوية في تسليم الخلافة إليه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولاندم وإنما كنانقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره وأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفةٌ فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بحد السيوف وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى. فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية! وأمضى الصلح.
ولما عزم على تسليم الأمر إلى معاوية خطب الناس فقال: أيها الناس إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم ونحن أهل بيت نبيكم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. وكرر ذلك حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه.
وكانت خلافة الحسن على قول من يقول: إنه سلم الأمر في ربيع الأول خمسة أشهر ونحو نصف شهر وعلى قول من يقول: في ربيع الآخر يكون ستة أشهر وشيئًا وعلى قول من يقول: في جمادى الأولى يكون سبعة أشهر وشيئًا والله تعالى أعلم.
تعليق:
يقول تعالى (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[6].
لا نرى جديدا فيما واجهه الإمام الحسن بن علي من ظروف دفعته للتفاوض مع ابن آكلة الأكباد أولا ثم القبول بالصلح الذي عرض عليهبعد أن (كَتبَ إِليه معاويةُ في الهُدْنةِ والصُّلحِ وأنفذَ إِليه بكُتُبِ أصحابِه التّي ضَمِنوا له فيها الفتكَ به وتسليمَه إِليه واشترط له على نفسِه في إِجابتهِ إِلى صلحِه شروطاً كثيرةً وعقدَ له عُقوداً كانَ في الوفاءِ بها مصالحٌ شاملةٌ فلم يَثِقْ به الحسنُ عليهِ السّلامُ وعلمَ احتيالَه بذلكَ واغتيالَه غيرَ انّه لم يَجِدْ بدّاً من إِجابتهِ إِلى ما التمسَمن ترك الحربِ وِانفاذِ الهدنةِ، لمِا كانَ عليه أصحابُه ممّا وصفْناه من ضعفِ البصائرِ في حقِّه والفسادِ عليه والخُلْفِ منهم له وما انطوى كثيرٌ منهم عليهِ في استحلالِ دمِه وتسليمهِ إِلى خصمِه وميلِ الجُمهورمنهم إِلى العاجلةِ وزهدِهم في الآجلةِ) حسب وصف الشيخ المفيد رضوان الله عليه في كتاب (الإرشاد).
إنها نفس الأوضاع التي أجبرت الإمام علي عليه السلام على القبول بالتحكيم رغم رأيه الواضح فيه ووصفه لهذه الدعوة بقوله (ناعق نعق إن أجيب أضل وإن ترك ذل) ورغم أن الدعوةللتحكيم لم يكن لها من هدف سوى إنقاذ المعسكر الأموي من هزيمة محققةحيث كانت طلائع جيش الحق توشك على اقتحام مقر قيادة ابن آكلة الأكباد.
الذين يستغربون محاولة قتل الإمام الحسن أو يستغربون تواصل الخونة مع ابن آكلة الأكباد وعرضهم استحلال دمه وتسليمه إلى عدو الله وعدو رسوله عليهم أن يرجعوا إلى ذات الموقف الذي تعرض له الإمام علي عليه السلام وهو من هو في جلاله ومنزلته عندما أجبر على قبول التحكيم وأجبر الفارس المغوار مالك الأشتر على إيقاف هجومه النهائي على مقر قيادة الكفر والضلال ودونكم الصورة كاملة.
(كانت كتيبة الأشتر توشك على اقتحام مقر القيادة الأموي وبدأ هؤلاء التائهون (من معسكر الإمام علي) يلحون في إيقاف القتال فأرسل الإمام علي إلى الأشتر يزيد بن هانئ أن ائتني فأتاه فأبلغه فقال الأشتر قل له ليست هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني فرجع يزيد بن هانئ إلى علي (ع) فأخبره فما هو إلا أن ارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ودلائل الخذلان و الإدبار لأهل الشام فقال القوم لعلي (ع) والله ما نراك أمرته إلا بالقتال فقال أرأيتموني شاورت رسولي إليه أليس إنما كلمته على رؤوسكم علانية و أنتم تسمعون قالوا فأبعث إليه فليأتك إلا فوالله اعتزلناك فقال ويحك يا يزيد قل له أقبل إلى فإن الفتنة قد وقعت فأتاه فأخبره فقال الأشتر أبرفع هذه المصاحف قال والله لقد علمت أنها حين رفعت ستوقع خلافا وفرقة إنها مشورة ابن النابغة ثم قال ليزيد بن هانئ ويحك ألا ترى إلى الفتح ألا ترى إلى ما يلقون ألا ترى إلى الذي يصنع الله لنا أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه فقال له يزيد أتحب أنك ظفرت ههنا وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ويسلم إلى عدوه قال سبحان الله لا والله لا أحب ذلك قال فإنهم قد قالوا له وحلفوا عليه لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمنك إلى عدوك فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم فصاح يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم و ظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها وتركوا سنة من أنزلت عليه فلا تجيبوهم أمهلوني فواقا فإني قد أحسست بالفتح، قالوا لا نمهلك قال فأمهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر قالوا إذن ندخل معك في خطيئتك قال فحدثوني عنكم وقد قتل أماثلكم وبقى أراذلكم متى كنتم محقين أحين كنتم تقتلون أهل الشام؟؟ فأنتم الآن حين أمسكتم عن قتالهم مبطلون أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم وأنهم خير منكم في النار قالوا دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا فقال خدعتم و الله فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ألا فقبحا يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا فأبعدوا كما بعد القوم الظالمون فسبوه وسبهم وضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب بسوطه وجوه دوابهم وصاح بهم علي عليه السلام فكفوا)[7].
يستغربون تعرض الإمام الحسن عليه السلام للخيانة من بعض من كان في معسكره رغم أن الخيانة هي دأب الأعراب الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ويكفي هؤلاء أنهم نكثوا عهدهم الذي عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم ونقضوا بيعتهم رغم أنه جعلوا الله عليها شهيدا!!.
(وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)[8].
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[9].
يستغربون من نقض هؤلاء لعهودهم وتربصهم بإمام الحق من آل محمد بينما هَمَ أسلافهم بقتل رسول يوم العقبة وأنزل الله في هذه الواقعة الفاضحة قرآنا يتلى إلى يوم الدين وذلك قوله تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)[10].
إنها الواقعة التي رواها الرواة والمحدثون والمفسرون ومنهم مسلم في (صحيحه) قال:
11 – (2779) حدثنا زهير بن حرب. حدثنا أبو أحمد الكوفي. حدثنا الوليد بن جميع. حدثنا أبو الطفيل قال: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس. فقال: أنشدك بالله! كم كان أصحاب العقبة؟ قال فقال له القوم: أخبره إذ سألك. قال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر. فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر. وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. وعذر ثلاثة. قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علمنا بما أراد القوم.
أما الذين اعتذروا بأنهم لم يسمعوا منادي رسول الله أن يسلكوا الوادي ويتركوا المضيق يشير إلى أن خطة الاغتيال كانت تقوم على إسقاط رسول الله من ظهر دابته من أجل قتله ثم تقديم المسألة كحادث تدافع أدى لسقوطه وسط الزحام لا فارق بينهم وبين أحفادهم من آل سعود الذين قتلوا آلاف الحجاج في حادث تدافع مفتعل في مشعر منى.
أما بقية الروايات التي أوردها مسلم فتشير إلى أمر غريب وهو الربط بين حرب الجمل ومشروع قتل الرسول صلى الله عليه وآله مما يطرح سؤالا عن هوية هؤلاء الأشخاص وأنهم من المشاهير الذين كانوا طرفا رئيسا في هذه الحرب.
روى مسلم أيضا:
9 – (2779) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا أسود بن عامر. حدثنا شعبة بن الحجاج عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس قال: قلت لعمار: أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر علي، أرأيا رأيتموه أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة. ولكن حذيفة أخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم “في أصحابي اثنا عشر منافقا. فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط. ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة وأربعة” لم أحفظ ما قال شعبة فيهم.
10 – (2779) حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار (واللفظ لابن المثنى). قالا: حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عباد، قال: قلنا لعمار: أرأيت قتالكم، أرأيا رأيتموه؟ فإن الرأي يخطئ ويصيب. أو عهدا عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إن في أمتي”. قال شعبة: وأحسبه قال: حدثني حذيفة.
وقال غندر: أراه قال “في أمتي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها، حتى يلج الجمل في سم الخياط. ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة. سراج من النار يظهر في أكتافهم. حتى ينجم من صدورهم”.
الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله يوم غدير خم بوسعهم أن يفعلوا نفس الشيء مرة إثر أخرى خاصة وقد وجدوا ضالتهم تحت راية ابن آكلة الأكباد ولن يصعب عليهم أن يكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا حسدا من عند أنفسهموبغيا واستكبارا في الأرض كما وصفهم أمير المؤمنين علي عليه السلام (أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا كَذِباً وَبَغْياً عَلَيْنَا أَنْ رَفَعَنَا اللَّهُ وَوَضَعَهُمْ وَأَعْطَانَا وَحَرَمَهُمْ وَأَدْخَلَنَا وَأَخْرَجَهُمْ).
لا تستغربوا خيانتهم وبغيهم فوفاؤهم بالعهد هو الأغرب!!.
العقود والمعاهدات بين البشر أصل عظيم من أصول الحياة الإنسانية والذين يحملون المسئولية لمن جرى خيانته ونقض ما أبرم من التزامات قدمها الخائن هم شركاء لهذا الخائن ومتوطئون معه بل ومستهزؤون بالعقد والعهد ولا يمكن الوثوق أو الاطمئنان لهم أو إئتمانئهم على مصير الأمة الإسلامية.
الخيانة جريمة كبرى لا تسقط بالتقادم وهي ليست جريمة مرتكبة في حق طرف واحد بل هي خيانة لله ورسوله وهذا معنى قوله تعالى (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[11].
هي جريمة مرتكبة بحق الذات الإلهية وليست بحق طرف بشري يسهل الاستخفاف به وإسكاته عن المطالبة بحقه (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[12].
فالوفاء بالعهد والميثاق وفاء لله والخيانة والغدر مبارزةوإعلان لله تبارك وتعالى بالحرب وعلى المرء أن يعي ويدرك من يحارب وعليه أن يتحمل النتائج والتبعات.
الذين خانوا الله سبحانه سيمكن منهم إن لم يكن اليوم فغدا (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ)[13]…… (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)[14].
الذين يكررون وكأنهم يتساءلون (لماذا صالح الإمام الحسن؟) يعرفون الجواب لكنهم يطرحون سؤالهم على سبيل الشماتة والاستخفاف، وأسوأ منهم من يزعمون أن هذا الصلح جاء بمثابة إقرار بأحقية ومشروعية سلطة ابن آكلة الأكباد ثم يرجعون إلى بيعة السقيفة المشئومة ليستخلصوا لها شرعية من العدم وهذه هي طبيعة منطقهم الأعوج المتهافت الذي يريد أن يصنع من العدم أبراجا وبنايات!!.
وبدلا من أن يسألوا القاتل لماذا قتلت والخائن لماذا خنت؟ نراهم ينقضون على المظلوم ويسألونه لماذا قبلت بالظلم؟ رغم أن جيوشهم كانت ولا تزال حاضرة للانقضاض على المظلوم وإكمال ما ارتكب بحقه من ظلم وبخس وقهر!!.
دكتور أحمد راسم النفيس
المنصورة مصر
07/12/2018مـ
الجمعة، 29 ربيع الأول، 1440
[1]نهج البلاغة خطبة 93.
[2]خطبة 87 نهج البلاغة.
[3]خطبة 98 نهج البلاغة.
[4]خطبة 93 نهج البلاغة.
[5]http://www.independent.co.uk/voices/comment/iraq-crisis-how-saudi-arabia-helped-isis-take-over-the-north-of-the-country-9602312.html
[6]العنكيوت 1-6.
[7]التحكيم. د أحمد راسم النفيس.
[8]الأحزاب 15-17.
[9]النحل 91-92.
[10]التوبة 74.
[11]الأنفال 71.
[12]النحل 91.
[13]الروم 55.
[14]الروم 60.