دراسات النفيس

فاطمة الزهراء سلام الله عليها ودور المرأة في عمارة الكون: دكتور أحمد راسم النفيس

فاطمة الزهراء

ودور المرأة في عمارة الكون

دكتور أحمد راسم النفيس

مصر

هذا البحث يحتوي على نقاط وإشارات مهمة حول غطاء الوجه (النقاب) وهل هو من الإسلام أم أنها عادة يهودية دخيلة تبناها الوهابيون وانتقلت من مجرد عادة لتصبح عبادة!!.

يقول تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[1].

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا[2].

لسنا بحاجة إلى التذكير أن المجتمع البشري يتكون من ذكر وأنثى وأن هذه العلاقة هي سبب بقاء الحياة وعمارة الكون وأن الأمر ليس بهذه البساطة التي يتصورها جماعة (تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) رغم أن الكثرة العددية لا تكفي وحدها للفخر والمباهاة.

لا يعمر الكون إلا بتوفير العناصر البشرية القادرة والمؤهلة لتلك المهمة وليس أولئك الهمج الغوغاء أتباع كل ناعق أدوات الخراب والدمار التي طالما استخدمها الطغاة في تحقيق تلك الغاية.

لو كان دور المرأة كما يتصور البسطاء قاصرا على إنجاب الأطفال كما يتصرف الدواعش لما حكى القرآن الكريم عن الأدوار العظيمة والرائعة التي قامت بها بعض النساء والتي شكلت نقاط تحول فاصلة في تاريخ البشرية وكذا الدور التخريبي السيء الذي قامت به نساء أخريات مما شكل نقطة سوداء في مسار البشرية كلها (وبضدها تتميز الأشياء).

النموذج المشرق الأول هو دور أم موسى عليه السلام (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[3].

ليس فقط أم موسى التي أنجبته ورعته وأوكل الله تبارك وتعالى إليها تقدير الخطر الذي يتهدده (فإذا خفت عليه) بل امرأة فرعون التي أسبغت حنانها على هذا (اللقيط) حيث أفلحت في إقناع ذلك الجبار العنيد باتخاذه ولدا فكان أن ذكرها الله عز وجل في كتابه مثنيا عليها ومنوها بإيمانها.

(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[4].

أيضا لا يفوتنك دور أخت موسى عليه السلام في العناية بنبي الله والعمل على حفظه كي ينمو ويكتمل ليؤدي دوره المقرر ضمن الخطة الإلهية الرامية إلى تدمير وهدم بنى الطاغوت.

(رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)[5].

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[6].

(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[7].

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)[8].

المساواة بين الذكر والأنثى في أصل التكليف والاستقلال بنتائج العمل أمام الله وتحمل كامل المسئولية عن الأفعال هي من أوضح الواضحات وليس صحيحا على الإطلاق أن المرأة مجرد تابع دنيوي وأخروي للرجل وأن حساب المرأة أمام الله سيكون تبعا لسي السيد كما يتصور الدواعش منذ البدء وحتى الآن.

أما الذين يستدلون بقوله تعالى (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[9]، على عصمة شاملة لزوجات الأنبياء فهم واهمون والدليل في نفس الآية (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) ولا يعدو الأمر أن يكون براءة من الفاحشة وحسب ولكنه أبدا ليس شهادة على حسن التصرف والسلوك.

لو كان للزوج والزوجة دفتر حساب واحد يوم القيامة لما نالت امرأة فرعون هذه المكانة الرفيعة ولما استحقت زوجتا لوط ونوح دخول النار رغم ارتباطهما بنبيين من أنبياء الله العظام (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)[10].

ولا يفوتنا أن نشير إلى الدور العظيم الذي قامت به العذراء مريم عليها السلام التي نالت عن استحقاق شرف حمل نبي الله عيسى وتحملت من أجل أداء هذه الرسالة الكبرى صنوف الآلام الجسدية والمعنوية عندما حملته في بطنها وعندما أتت به قومها تحمله كما حكى القرآن الكريم (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ)[11].

أعباء وأثقال لا يحملها إلا من اختاره الله واصطفاه وامتحن قلبه للإيمان كي تظل الحجة الإلهية قائمة على البشرية إلى يوم الفصل النهائي ليميز الله الخبيث من الطيب ويحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون.

جاءت التزكية الكبرى لمريم ابنة عمران ملازمة لتلك التي نالتها امرأة فرعون (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)[12].

كان لعيسى ابن مريم أم واحدة هي مريم عليها السلام بينما حظي موسى عليه السلام بأمين مؤمنتين أمه الأصلية وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون التي احتضنته وكفلته وعبرت به نحو الأمن والأمان.

الزهراء وفضلها على البشرية بأسرها

لم تحز فاطمة بنت النبي محمد أو فاطمة الزهراء الفضل والرفعة والمكانة من جهة واحدة ولا عبر وراثة الصدفة كما يزعم الكسالى والواهمون.

يكفيها فخرا أنها بنت النبي محمد.

ويكفيها فخرا أنها زوج علي بن أبي طالب عليه السلام.

ويكفيها فخرا أنها أم الحسن والحسين وأم زينب.

وفي النهاية يكفيها فخرا أنها فاطمة.

يقول تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ)[13].

ذكر علي بن إبراهيم في تفسير (القمي) حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدثنا سعيد بن عبدالله عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري عن يحيى بن سعيد القطان قال: سمعت ابا عبدالله عليه السلام يقول في قول الله تبارك وتعالى (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) قال علي وفاطمة بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) قال الحسن والحسين عليهما السلام، وقال علي بن ابراهيم في قوله: (مرج البحرين يلتقيان) أمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) الحسن والحسين.

نساء النبي والحجاب السياسي

يقول تعالى (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)[14].

ويقول سبحانه:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا)[15].

الطريف في الأمر أن الوهابيين وربما غيرهم من أنصار فرض غطاء الوجه على عموم النساء استدلوا بهذه الآية (فاسألوهن من وراء حجاب) بينما يقوم الدليل واضحا على اختصاص هذا الأمر بنساء النبي ولو كان الأمر عاما فلماذا قصر إذن الدخول على المذكورين ولم يشمل بقية المحارم مثل الأعمام والأخوال؟!.

الأمر الآخر أن ثمة ارتباط واضح بين هذا الأمر وقوله تعالى (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) ويبدو أن البعض قد تصور أن بإمكانه الزواج من أمهات المؤمنين بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله كما هو شأن كل النساء والعهدة على الفخر الرازي في تفسير مفاتيح الغيب: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} وكل ما منعتم عنه مؤذ فامتنعوا عنه، وقوله تعالى: {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} قيل سبب نزوله أن بعض الناس قيل هو طلحة بن عبيد الله، قال لئن عشت بعد محمد لأنكحن عائشة.

ولو كانت الآيات السابقة عامة لما نزل بعدها قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[16].

من المعلوم أن المجتمع المدني مع بداية الهجرة كان يضم أكثرية من اليهود رجالا ونساء حيث كان النقاب أي تغطية الوجه بالصورة الوهابية الشائعة الآن جزءا من تقاليدهن خاصة صاحبات الخلق السيء ومن لا يصدقنا فليرجع إلى العهد القديم أي التوراة وتحديدا سفر التكوين. الأصحاح 38.

1 وَحَدَثَ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ أَنَّ يَهُوذَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ إِخْوَتِهِ، وَمَالَ إِلَى رَجُل عَدُلاَّمِيٍّ اسْمُهُ حِيرَةُ.
2 وَنَظَرَ يَهُوذَا هُنَاكَ ابْنَةَ رَجُل كَنْعَانِيٍّ اسْمُهُ شُوعٌ، فَأَخَذَهَا وَدَخَلَ عَلَيْهَا،
3 فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَا اسْمَهُ «عِيرًا».
4 ثُمَّ حَبِلَتْ أَيْضًا وَوَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «أُونَانَ».
5 ثُمَّ عَادَتْ فَوَلَدَتْ أَيْضًا ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «شِيلَةَ». وَكَانَ فِي كَزِيبَ حِينَ وَلَدَتْهُ.
6 وَأَخَذَ يَهُوذَا زَوْجَةً لِعِيرٍ بِكْرِهِ اسْمُهَا ثَامَارُ.
7 وَكَانَ عِيرٌ بِكْرُ يَهُوذَا شِرِّيرًا فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، فَأَمَاتَهُ الرَّبُّ.
8 فَقَالَ يَهُوذَا لأُونَانَ: «ادْخُلْ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيكَ وَتَزَوَّجْ بِهَا، وَأَقِمْ نَسْلاً لأَخِيكَ».
9 فَعَلِمَ أُونَانُ أَنَّ النَّسْلَ لاَ يَكُونُ لَهُ، فَكَانَ إِذْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيهِ أَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَى الأَرْضِ، لِكَيْ لاَ يُعْطِيَ نَسْلاً لأَخِيهِ.
10 فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مَا فَعَلَهُ، فَأَمَاتَهُ أَيْضًا.
11 فَقَالَ يَهُوذَا لِثَامَارَ كَنَّتِهِ: «اقْعُدِي أَرْمَلَةً فِي بَيْتِ أَبِيكِ حَتَّى يَكْبُرَ شِيلَةُ ابْنِي». لأَنَّهُ قَالَ: «لَعَلَّهُ يَمُوتُ هُوَ أَيْضًا كَأَخَوَيْهِ». فَمَضَتْ ثَامَارُ وَقَعَدَتْ فِي بَيْتِ أَبِيهَا.
12 وَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ مَاتَتِ ابْنَةُ شُوعٍ امْرَأَةُ يَهُوذَا. ثُمَّ تَعَزَّى يَهُوذَا فَصَعِدَ إِلَى جُزَّازِ غَنَمِهِ إِلَى تِمْنَةَ، هُوَ وَحِيرَةُ صَاحِبُهُ الْعَدُلاَّمِيُّ.
13 فَأُخْبِرَتْ ثَامَارُ وَقِيلَ لَهَا: «هُوَذَا حَمُوكِ صَاعِدٌ إِلَى تِمْنَةَ لِيَجُزَّ غَنَمَهُ».
14 فَخَلَعَتْ عَنْهَا ثِيَابَ تَرَمُّلِهَا، وَتَغَطَّتْ بِبُرْقُعٍ وَتَلَفَّفَتْ، وَجَلَسَتْ فِي مَدْخَلِ عَيْنَايِمَ الَّتِي عَلَى طَرِيقِ تِمْنَةَ، لأَنَّهَا رَأَتْ أَنَّ شِيلَةَ قَدْ كَبُرَ وَهِيَ لَمْ تُعْطَ لَهُ زَوْجَةً.
15 فَنَظَرَهَا يَهُوذَا وَحَسِبَهَا زَانِيَةً، لأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ غَطَّتْ وَجْهَهَا.
16 فَمَالَ إِلَيْهَا عَلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ: «هَاتِي أَدْخُلْ عَلَيْكِ». لأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا كَنَّتُهُ. فَقَالَتْ: «مَاذَا تُعْطِينِي لِكَيْ تَدْخُلَ عَلَيَّ؟»
17 فَقَالَ: «إِنِّي أُرْسِلُ جَدْيَ مِعْزَى مِنَ الْغَنَمِ». فَقَالَتْ: «هَلْ تُعْطِينِي رَهْنًا حَتَّى تُرْسِلَهُ؟».
18 فَقَالَ: «مَا الرَّهْنُ الَّذِي أُعْطِيكِ؟» فَقَالَتْ: «خَاتِمُكَ وَعِصَابَتُكَ وَعَصَاكَ الَّتِي فِي يَدِكَ». فَأَعْطَاهَا وَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَحَبِلَتْ مِنْهُ.
19 ثُمَّ قَامَتْ وَمَضَتْ وَخَلَعَتْ عَنْهَا بُرْقُعَهَا وَلَبِسَتْ ثِيَابَ تَرَمُّلِهَا.
20 فَأَرْسَلَ يَهُوذَا جَدْيَ الْمِعْزَى بِيَدِ صَاحِبِهِ الْعَدُلاَّمِيِّ لِيَأْخُذَ الرَّهْنَ مِنْ يَدِ الْمَرْأَةِ، فَلَمْ يَجِدْهَا.
21 فَسَأَلَ أَهْلَ مَكَانِهَا قَائِلاً: «أَيْنَ الزَّانِيَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي عَيْنَايِمَ عَلَى الطَّرِيقِ؟» فَقَالُوا: «لَمْ تَكُنْ ههُنَا زَانِيَةٌ».
22 فَرَجَعَ إِلَى يَهُوذَا وَقَالَ: «لَمْ أَجِدْهَا. وَأَهْلُ الْمَكَانِ أَيْضًا قَالُوا: لَمْ تَكُنْ ههُنَا زَانِيَةٌ».
23 فَقَالَ يَهُوذَا: «لِتَأْخُذْ لِنَفْسِهَا، لِئَلاَّ نَصِيرَ إِهَانَةً. إِنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ هذَا الْجَدْيَ وَأَنْتَ لَمْ تَجِدْهَا».
24 وَلَمَّا كَانَ نَحْوُ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، أُخْبِرَ يَهُوذَا وَقِيلَ لَهُ: «قَدْ زَنَتْ ثَامَارُ كَنَّتُكَ، وَهَا هِيَ حُبْلَى أَيْضًا مِنَ الزِّنَا». فَقَالَ يَهُوذَا: «أَخْرِجُوهَا فَتُحْرَقَ».
25 أَمَّا هِيَ فَلَمَّا أُخْرِجَتْ أَرْسَلَتْ إِلَى حَمِيهَا قَائِلَةً: «مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي هذِهِ لَهُ أَنَا حُبْلَى!» وَقَالَتْ: «حَقِّقْ لِمَنِ الْخَاتِمُ وَالْعِصَابَةُ وَالْعَصَا هذِهِ».
26 فَتَحَقَّقَهَا يَهُوذَا وَقَالَ: «هِيَ أَبَرُّ مِنِّي، لأَنِّي لَمْ أُعْطِهَا لِشِيلَةَ ابْنِي». فَلَمْ يَعُدْ يَعْرِفُهَا أَيْضًا.
27 وَفِي وَقْتِ وِلاَدَتِهَا إِذَا فِي بَطْنِهَا تَوْأَمَانِ.
28 وَكَانَ فِي وِلاَدَتِهَا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَخْرَجَ يَدًا فَأَخَذَتِ الْقَابِلَةُ وَرَبَطَتْ عَلَى يَدِهِ قِرْمِزًا، قَائِلَةً: «هذَا خَرَجَ أَوَّلاً».
29 وَلكِنْ حِينَ رَدَّ يَدَهُ، إِذَا أَخُوهُ قَدْ خَرَجَ. فَقَالَتْ: «لِمَاذَا اقْتَحَمْتَ؟ عَلَيْكَ اقْتِحَامٌ!». فَدُعِيَ اسْمُهُ «فَارِصَ».
30 وَبَعْدَ ذلِكَ خَرَجَ أَخُوهُ الَّذِي عَلَى يَدِهِ الْقِرْمِزُ. فَدُعِيَ اسْمُهُ «زَارَحَ».

 

ولا تعليــــــــــــــق!!

أما سفر نشيد الإنشاد الأصحاح 4 فمليء بالإيحاءات الجنسية السافرة التي يشكل النقاب أحد أهم أدواتها.

1 هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ! عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ مِنْ تَحْتِ نَقَابِكِ. شَعْرُكِ كَقَطِيعِ مِعْزٍ رَابِضٍ عَلَى جَبَلِ جِلْعَادَ.
2 أَسْنَانُكِ كَقَطِيعِ الْجَزَائِزِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْغَسْلِ، اللَّوَاتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ، وَلَيْسَ فِيهِنَّ عَقِيمٌ.
3 شَفَتَاكِ كَسِلْكَةٍ مِنَ الْقِرْمِزِ، وَفَمُكِ حُلْوٌ. خَدُّكِ كَفِلْقَةِ رُمَّانَةٍ تَحْتَ نَقَابِكِ.
4 عُنُقُكِ كَبُرْجِ دَاوُدَ الْمَبْنِيِّ لِلأَسْلِحَةِ. أَلْفُ مِجَنٍّ عُلِّقَ عَلَيْهِ، كُلُّهَا أَتْرَاسُ الْجَبَابِرَةِ.
5 ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْ ظَبْيَةٍ، تَوْأَمَيْنِ يَرْعَيَانِ بَيْنَ السَّوْسَنِ.
6 إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ، أَذْهَبُ إِلَى جَبَلِ الْمُرِّ وَإِلَى تَلِّ اللُّبَانِ.
7 كُلُّكِ جَمِيلٌ يَا حَبِيبَتِي لَيْسَ فِيكِ عَيْبَةٌ.

 

وأيضا لا تعليـــــــــــق!!!

 

الخلاصة أن تفسير النص القرآني (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) بمعزل عن ملاحظة الوجود اليهودي الكثيف آنئذ بالمدينة وهو ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام  الذي سُئِلَ يوما عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله) غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ، فَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ (صلى الله عليه وآله) ذَلِكَ وَالدِّينُ قُلٌّ فَأَمَّا الْآنَ وَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَمَا اخْتَارَ[17]، وما يشير إليه النص القرآني من أن تغطية الوجه آنئذ كان مدعاة للشبهة وليس دفعا للفتنة كما يصور البعض!!.

الفتنة والحجاب!!

لا أعتقد أن أم المؤمنين عائشة قائدة إحدى أخطر الفتن التي ضربت الأمة الإسلامية في مقتل خرجت إلى الناس سافرة الوجه والشيء المؤكد أنها حافظت على نصف الوصية القرآنية المتعلقة بمن يحق له الدخول عليها إلا أنها خالفت النصف الأخطر والأهم وهو قوله تعالى (وقرن في بيوتكن) أو ما يعادل الآن الإقامة الجبرية!!.

يمكن لأي امرأة أن تتكلم بما تريد حقا كان أو باطلا وهي تلبس النقاب الذي لن يمنع صوتها من الوصول إلى الناس مثلما فعلت عائشة التي ألبت الناس على عثمان بن عفان ودعت إلى قتله قائلة (اقتلوا نعثلا قتله الله) ظنا منها أن الإمرة ستنتقل إلى ابن العم طلحة بن عبيد الله ولما خاب ظنها غيرت رأيها وصاحت (قتل عثمان مظلوما) وزعمت أنها تريد الثأر والقصاص من قاتليه!!.

الحجاب المفروض على زوجات النبي هو في الأساس حجاب سياسي قبل أن يكون حجاب الجسد أو الوجه ويكفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله لأزواجه بعد حجة الوداع حسب رواية أبي داود 1722 حدثنا النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن لأبي واقد الليثي عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه في حجة الوداع هذه ثم ظهور الحصر، أي قرن في بيوتكن.

 

الدور السياسي والأخلاقي للزهراء

خطبتها في محضر الخليفة الأول

روى الطبرسي في (الاحتجاج) عن عبد الله بن الحسن باسناده عن آبائه عليهم السلام: لما اجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكا وبلغها ذلك، لاثت[18] خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، واقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبى بكر وهو في حشد من المهاجرين والانصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة فجلست ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها، فقالت عليها السلام:

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها وتمام مننٍ أولاها، جم عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الاشياء لا من شئ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء امثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته، واظهارا لقدرته، تعبدا لبريته وإعزازا لدعوته ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة لعباده من نقمته، وحياشة لهم إلى جنته، وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله اختاره قبل ان أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصون وبنهاية العدم مقرونة علما من الله تعالى بما يلى الامور، واحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بموقع الأمور ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وانفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم. ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمحمد صلى الله عليه واله من تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبى نبيه، وامينه، وخيرته من الخلق وصفيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.

ثم التفتت إلى اهل المجلس وقالت: أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغائه إلى الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم: كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائدا إلى الرضوان اتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك والصلاة: تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس، ونماء في الرزق، والصيام تثبيتا للاخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقا للقلوب، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة والجهاد عزا للإسلام، والصبر، معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منساة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية المكائيل والموازين تغييرا للبخس، والنهى عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس واجتناب القذف: حجابا عن اللعنة، وترك السرقة إيجابا للعفة، وحرم الله الشرك اخلاصا له بالربوبية، فاتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن الا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فانه إنما يخشى الله من عباده العلماء. ثم قالت ايها الناس اعلموا أني فاطمة وأبي محمد صلى الله عليه وآله، أقول عودا وبدءا، ولا اقول ما اقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فان تعزوه وتعرفوه: تجدوه أبي دون نسائكم، واخا ابن عمي دون رجالكم ولنعم المعزى إليه صلى الله عليه وآله وسلم، فبلغ الرسالة، صادعا بالنذارة مائلا عن مدرجة المشركين ضاربا ثبجهم[19] آخذا بأكظامهم داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجذ الأصنام وينكث الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين وطاح وشيظ النفاق[20]، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الاخلاص في نفر من البيض الخماص[21] وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان، وموطئ الاقدام تشربون الطرق[22] وتقتاتون القد[23] أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما اوقدوا نارا للحرب اطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها باخمصه ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا، كادحا، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الاخبار[24] وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال، فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة النفاق وسمل جلباب الدين ونطق كاظم الغاوين ونبغ خامل الأقلين وهدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير مشربكم هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر.

ابتدارا، زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين، فهيهات منكم، وكيف بكم، وانى تؤفكون، وكتاب الله بين اظهركم، اموره ظاهرة، واحكامه زاهرة واعلامه باهرة، وزواجره لايحة، واوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء ظهوركم أرغبة عنه تريدون؟ ام بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا، ومن يبتع غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين ثم لم تلبثوا الا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها ثم اخذتم تورون وقدتها وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، واطفاء انوار الدين الجلي واهمال سنن النبي الصفي، تشربون حسوا في ارتغاء[25] وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء[26] ونصبر منكم على مثل حز المدى ووخز السنان في الحشاء، وانتم الآن تزعمون: أن لا إرث لنا، افحكم الجاهلية تبغون ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون؟! أفلا تعلمون؟.

بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية: أني ابنته. ايها المسلمون أأغلب على ارثي؟ يابن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث اباك ولا ارث ابى؟ لقد جئت شيئا فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: “وورث سليمان داود” وقال: فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: “فهب لى من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب” وقال: “وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله” وقال: “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين” وقال: “إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين” وزعمتم: ان لا حظوة لي ولا إرث من أبي، ولا رحم بيننا، افخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: أنا أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي أهل ملة واحدة؟ أم انتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكموها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.

ثم رمت بطرفها نحو الانصار فقالت: يا معشر النقيبة واعضاد الملة وحضنة الاسلام ما هذه الغميزة في حقي والسِنة عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله صلى الله عليه وآله ابي يقول (المرء يحفظ في ولده)؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا اهالة[27] ولكم طاقة بما احاول، وقوة على ما اطلب وأزاول، أتقولون مات محمد صلى الله عليه وآله؟ فخطب جليل: استوسع وهنه واستنهر فتقه وانفتق رتقه، واظلمت الارض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت[28] الآمال وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وازيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه، في أفنيتكم، وفي ممساكم، ومصبحكم، يهتف في افنيتكم هتافا، وصراخا، وتلاوة، والحانا، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل، وقضاء حتم: “وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين “.

إيها بني قيلة ءأهضم تراث أبي؟ وانتم بمرئ مني ومسمع، ومنتدى ومجمع تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وانتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة وعندكم السلاح والجنة توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وانتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا اهل البيت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البهم لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الاسلام، ودر حلب الأيام، وخضعت ثغرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج واستوسق نظام الدين فأنى حرتم بعد البيان؟ واسررتم بعد الاعلان ونكصتم بعد الاقدام؟ واشركتم بعد الايمان؟ بؤسا لقوم نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم، وهموا باخراج الرسول، وهم بدؤكم اول مرة، اتخشونهم فالله احق ان تخشوه ان كنتم مؤمنين ألا وقد أرى أن قد اخلدتم إلى الخفض وابعدتم من هو احق بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم الذى تسوغتم[29] فان تكفروا انتم ومن في الارض جميعا فان الله لغنى حميد. ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وخور القناة وبثة الصدر، وتقدمة الحجة فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر نقبة الخف باقية العار، موسومة بغضب الجبار، وشنار الابد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الافئدة، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي مقلب ينقلبون. وأنا ابنة نذير لكم بين يدى عذاب شديد فاعلموا انا عاملون، وانتظروا انا منتظرون.

كلامها سلام الله عليها في مرضها الأخير

يروي ابن أبي الحديد في شرح النهج: قال أبو بكر: حدثنا محمد بن زكريا قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبى عن عبد الله بن حماد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين عليه السلام، قالت: لما اشتد بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله الوجع وثقلت في علتها اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين والانصار فقلن لها: كيف أصبحت يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله أصبحت عائفة لدنياكم قالية لرجالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم وشنئتهم بعد أن سبرتهم فقبحا لفلول الحد وخور القناة وخطل الرأى وبئسما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون لاجرم! قد قلدتهم ربقتها وشنت عليهم غارتها فجدعا وعقرا وسحقا للقوم الظالمين! ويحهم! أين زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوه ومهبط الروح الأمين والطيبين بأمر الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين!!.

وما الذى نقموا من أبى حسن! نقموا والله نكير سيفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمره في ذات الله وتالله لو تكافوا عن زمام نبذه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله لاعتلقه ولسار إليهم سيرا سجحا لا تكلم حشاشته ولا يتعتع راكبه ولاوردهم منهلا نميرا فضفاضا يطفح ضفتاه ولأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأى غير متحل بطائل إلا بغمر الناهل وردعه سورة الساغب ولفتحت عليهم بركات من السماء والارض وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.

ألا هلم فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبه وأن تعجب فقد أعجبك الحادث إلى أي لجأ استندوا وبأى عروة تمسكوا! لبئس المولى ولبئس العشير ولبئس للظالمين بدلا! استبدلوا والله الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) ويحهم! (فمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)! أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا وذعاقا ممقرا هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الاولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا واطمئنوا للفتنة جأشا وأبشروا بسيف صارم وهرج شامل وأستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا وجمعكم حصيدا فيا حسرة عليكم وأنى لكم وقد عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ! والحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين . * * *

أما رواية الطبرسي في الاحتجاج عن سويد بن غفلة:

لما مرضت فاطمة سلام الله عليها، المرضة التي توفيت فيها دخلت عليها نساء المهاجرين والانصار يعدنها، فقلن لها: كيف اصبحت من علتك يا بنت رسول الله؟ فحمدت الله، وصلت على ابيها، ثم قالت: اصبحت والله: عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم لفظتهم بعد ان عجمتهم وسئمتهم بعد ان سبرتهم فقبحا لفلول الحد، واللعب بعد الجد، وقرع الصفات وصدع القناة، وختل الآراء وزلل الاهواء، وبئس ما قدمت لهم انفسهم: أن سخط الله عليهم، وفى العذاب هم خالدون. لاجرم لقد قلدتهم ربقتها وحملتهم اوقتها وشننت عليهم غاراتها فجدعا وعقرا وبعدا، للقوم الظالمين. ويحهم انى زعزعوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الامين، والطبين بأمور الدنيا والدين؟! ألا ذلك هو الخسران المبين! وما الذى نقموا من أبي الحسن عليه السلام؟! نقموا والله منه نكير سيفه، وقلة مبالاته لحتفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله وتالله لو مالوا عن المحجة اللايحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردهم إليها، وحملهم عليها ولسار بهم سيرا سجحا لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلا نميرا، صافيا، رويا، تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ولأصدرهم بطانا، ونصح لهم سرا واعلانا، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ري الناهل، وشبعة الكافل، ولبان لهم: الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب، ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض، ولكن كذبوا فاخذناهم بما كانوا يكسبون، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين! الا هلم فاسمع! وما عشت اراك الدهر عجبا! وان تعجب فعجب قولهم!.. ليت شعرى إلى أي اسناد استندوا؟! والى اي عماد اعتمدوا؟! وبأية عروة تمسكوا؟! وعلى اية ذرية اقدموا واحتنكوا لبئس المولى ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلا، استبدلوا والله الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغما لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسنون صنعا. ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. ويحهم أفمن يهدى إلى الحق احق ان يتبع ام من لا يهدى الا ان يهدى فما لكم كيف تحكمون؟!.

أما لعمري لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا ملاء القعب دما عبيطا وزعافا مبيدا، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف البطالون غب ما اسس الاولون، ثم طيبوا عن دنياكم انفسا، واطمأنوا للفتنة جاشا، وابشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين: يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا، فيا حسرة لكم! وانى بكم وقد عميت عليكم! أنلزمكموها وانتم لها كارهون.

قال سويد بن غفلة فاعادت النساء قولها عليها السلام على رجالهن فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا لامر قبل ان يبرم العهد، ويحكم العقد، لما عدلنا عنه إلى غيره، فقالت عليها السلام: إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم.

تعقيب:

 

يرتبط (المسلمون) بوعي جماعي متألم يبحث ويفتش عن سبب شقائهم وتعاستهم من دون الأمم!!.

من ناحية فنحن نرى أن الغالبية العظمى من البشر ليسوا على ما يرام وأن صنوف الشقاء تتوزع بين الأمم الغنية والفقيرة حتى وإن بدا أننا في الدرك الأسفل وهو ما لا يبدو لنا تشخيصا دقيقا.

لا نتفق مع من يطرحون سؤال (لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا)؟!.

تخلفنا … هذا صحيح ولكن متى أصبح (التقدم) الذي حققه غيرنا هو النموذج والمثال الذي يتعين علينا اللحاق به؟!.

لسنا من يزدرون أو يحتقرون ما أنجزه الآخرون جملة وتفصيلا لأننا نعتقد أن من الضروري أن نحدد ماذا نقبل وماذا نرفض ضمن الإطار الحضاري الذي يعيشه الغرب أو الشرق وليس بصورة عشوائية شاملة!!.

الذي نراه بأم أعيننا أن العالم الأول بقدر ما حقق من إنجازات علمية وحضارية فهو يعاني أيضا من كوارث اجتماعية ومنظومة أخلاقية لا نرغب على الإطلاق في اقتباسها ولا التأسي بها.

السؤال المطروح: لماذا تخلف المسلمون وتراجعت مكانتهم في السباق الحضاري بين الأمم رغم أن الآخرين يعانون من كثير من الويلات والعلل؟!.

النظرية الرسمية المعتمدة تتفاوت بين (السنة) والشيعة فالسنة يقولون أن كل شيء كان على ما يرام حتى عصر معاوية بن أبي سفيان الذي ارتكب خطأ بسيطا للغاية وهو أنه أحال النظام السياسي إلى ما يسمى بالملك العضوض إلا أنه (رضي الله عنه) كان يطبق الشريعة الإسلامية وأنه وأنه….

الغريب أن من بين الشيعة من يشاركهم تلك الرؤية إلا أنهم طبعا لا يثنون على ابن آكلة الأكباد لأنه حارب الإمام علي بن أبي طالب وارتكب الكثير من الجرائم البشعة.

المهم أن هؤلاء وهؤلاء يلتقون عند نقطة جوهرية وهي أنه كان لدينا يوما ما نظام إسلامي انحرف عنه من انحرف بينما تقول الروايات التي ذكرناها سابقا أن هذه النقطة كانت مجرد وهم وأن الصحابة أقاموا نموذجهم (الإسلامي) الخاص بهم بمجرد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذه الدنيا.

نموذج سلطوي خاص بهم مؤسس على مجموعة من الوشائج والعلائق التي ربطت بين الآباء المؤسسين، مجموعة سقيفة بني ساعدة الذين يمكن وصفهم ببساطة بكونهم (مجلس قيادة الانقلاب المضاد) وهي عملية تشبه إلى حد كبير نموذج العجل الذي نصبه السامري صنما لبني إسرائيل حيث حرص السامري على إعطائه لمسة موسوية (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)[30].

لا نحتاج كثيرا إلى الغوص في أعماق الروايات ولا التجول بين سراديب التاريخ للتأكد من صحة ما ذكرته الزهراء عليها السلام عندما استشهدت بقوله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[31] ضمن الخطبة التي أوردناها سابقا.

ولا شك أن قوله تعالى (أفإن) مات أو قتل تعني المبادرة الفورية للانقلاب على قيم الإسلام المحمدية فور موته أو قتله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام وليس على سبيل الاسترخاء مثلما

يدعي البعض أن هذا الانحراف أو الانقلاب استغرق عدة عقود قبل وقوعه في زمن معاوية ابن آكلة الأكباد.

اكتمل الانقلاب المضاد أو تكامل على الخط الرسالي وعلى أصحابه الأصليين على عهد معاوية لكنه كان واضحا منذ اللحظة الأولى لموته صلى الله عليه وآله.

المسألة إذا كانت كما وصفتها عليها السلام إنها (والله النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه، في أفنيتكم، وفي ممساكم، ومصبحكم، يهتف في افنيتكم هتافا، وصراخا، وتلاوة، والحانا، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل، وقضاء حتم)!!.

دعك إذا من التلاعب بالنصوص ومحاولة جمع ما لا يجتمع ولصق ما لا يلتصق والتماس الأعذار والحجج لقادة الانقلاب صناع العجل تارة بسبب انعدام الفهم لدى من يتناول المسألة وتارة أخرى أملا  في التقريب بين المذاهب ركضا وراء سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا!!.

لسنا من دعاة التهييج وإثارة الصراعات إلا أننا نؤمن بواجبنا في طرح الحقائق بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أننا نجزم أننا لسنا أكثر حكمة ولا تعقلا ولا أدبا ممن نزل القرآن في أبياتهم.

تضمنت خطبة الزهراء عليها السلام في مواجهة الخليفة الأول اثني عشر فقرة لخصت فيها أهم المعارف والعلوم الإسلامية بدءا من التوحيد والنبوة وصولا إلى النهايات البائسة التي سيسوق إليها هذا الانقلاب مرورا بالأدوار السيئة المنافقة التي قام بها البعض وتلك المتخاذلة التي وقفها الأنصار وهي كما يلي:

  • معالم التوحيد والنبوة.
  • واقع البشرية والعرب خاصة في جاهليتهم.
  • انتقال رسول الله صلى الله عليه عن هذه الدنيا بعد قيامه بالمهمة الملقاة إليه من السماء.
  • طبيعة الرسالة الإسلامية والمهمة الملقاة على عاتق من يفترض أنهم حواريو رسول الله وأنصاره.
  • تعريف الناس بموقع الزهراء ومقامها من الرسول وكيف أدى صلى الله عليه وآله الأمانة وبلغ الرسالة:
  • حال العرب خاصة في جاهليتهم وحربهم على الإسلام ودور الإمام علي عليه السلام مقابل تخاذل الآخرين وأدوارهم الباهتة في الدفاع عن الإسلام بل ونفاقهم حال حياة رسول الله ص ورغم ذلك فقد تقمصوا دور القيادة بمجرد رحيل الرسول الأكرم.
  • إقامة الحجة على الانقلابيين ومواجهة ادعاءاتهم الزائفة.
  • العواقب المستقبلية التي تنتظر الآخرين بسبب غدرالأولين.
  • أبرز معالم الانقلاب وطبيعته.
  • العاقبة المرة للانقلاب على رسول الله وأهل بيته.
  • تذكير الأنصار بعهدهم ودورهم الذي نقضوه وخذلانهم لآل بيت المصطفى.
  • خاتمة المقال: مصير الأمة البائس.

منذ تلك اللحظة بدأت عملية تزييف وعي الأمة وتقديم إسلام بديل تتقدم فيه الروايات المكذوبة على رسول الله ص على النص القرآني المحكم.

القرآن الكريم يقول (وورث سليمان داود) وراثة للعلم والولاية وقطعا وراثة للثروة والمال التي هي إحدى أدوات الولاية بينما يزعم الخليفة الأول أنه سمع من رسول الله ما لم يسمعه أهل بيته (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة!!) فيؤخذ بقوله وينبذ كتاب الله وراء ظهرانيهم كأنهم لا يعلمون ولا يسمعون كتاب الله!!.

أما عن التبعات التي كانت وقتها مستقبلية وأضحت الآن أمرا واقعا يزعمون أنهم غير راضين عنه ويرغبون في تغييره شريطة أن يبقى سيف الظلم مصلتا على رقاب محمد وآل محمد وشيعتهم وأنصارهم إلى يوم الدين فحدث ولا حرج!!,

تبعات حذرت الزهراء عليها السلام منها (فاحتقبوها دبرة الظهر نقبة الخف باقية العار، موسومة بغضب الجبار وشنار الأبد موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الافئدة، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي مقلب ينقلبون).

احتار القوم في تشخيص عللهم وبلائهم ولجأوا إلى العطارين والسحرة وأسلموا أمرهم للدجالين وارتكبوا كل صنوف الخلل والخطل، إلا أنهم لم يفكروا ولو للحظة واحدة في العودة إلى صراط الله المستقيم!!.

وإلى أن يدرك الذين ظلموا مغزى قوله تعالى (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[32]، ساعتها سيعلم (التالون غب ما أسس الاولون).

لن يعود للعرب عوازب أحلامهم إلا إذا تأملوا فيما حذرتهم الزهراء عليها السلام من وقوعه ومن العواقب المأساوية لغدرهم ونكث عهودهم: (أما لعمر الله لقد لقحت فنَظِرة ريثما تنتج ثم.. احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا وذعاقا ممقرا هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الاولون… طيبوا عن أنفسكم نفسا واطمئنوا للفتنة جأشا …. أبشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا وجمعكم حصيدا… يا حسرة عليكم وأنى لكم وقد عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون!)…. (والحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين) كما قالت أم الحسن والحسين.

الموقف الزهرائي كان بمثابة الإنذار الأخير لأمة كانت لا تزال تملك وقتها فرصة العودة إلى الصواب، إلى جادة الصراط، لكنها أصرت على مواصلة رحلة التيه والضياع.

بهذا المنطق شكل نداء الزهراء الفرصة الأخيرة للحفاظ على ما بناه رسول الله صلى الله عليه وآله طيلة السنوات الماضية ولكن القوم أبوا وكابروا (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[33].

وبغض النظر عن كفر قوم نوح بمعنى رفضهم الاستجابة لدعوة نبيهم وادعاء هؤلاء للإيمان ونكوصهم عن عهودهم فكلا الأمتين عصت وخالفت أمر ونصيحة نبيها واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير فكتب لأولاهما الهلاك وكتب للأخرى الذلة والمسكنة إلى أن تفيء لأمر الله!!.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

دكتور أحمد راسم النفيس

المنصورة مصر

هاتف 00201223913029

‏06‏/01‏/2019مـ

‏الأحد‏، 29‏ ربيع الثاني‏، 1440هـ

[1] النساء 1.

[2] الأحزاب 6.

[3] القصص 7-14.

[4] سورة التحريم 11.

[5] آل عمران 194-195.

[6] النساء 124.

[7] النحل 97.

[8] غافر 40.

[9] النور 26.

[10] التحريم 10.

[11] سورة مريم 23-34.

[12] التحريم 12.

[13] الرحمن 19-20.

[14] الأحزاب 32-34.

[15] الأحزاب 53-55.

[16] الأحزاب 59.

[17] حكمة 17 نهج البلاغة.

[18] شدت.

[19] ممسكا بهم من وسطهم.

[20] سفلة القوم.

[21] يراد بهم أهل البيت عليهم السلام.

[22] ماء المطر المختلط ببول الإبل.

[23] كانوا يأكلون جلد الأنعام من الجوع.

[24] تنتظرون وقوع المصائب بنا.

[25] مثل يضرب لمن يريد أمرا ويشير إلى غيره.

[26] تشير إلى فنون الغدر والالتواء.

[27] مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وقته.

[28] قل خيرها

[29] تقيأ ما شرب.

[30] طه 95-96.

[31] آل عمران 144.

[32] البقرة 57.

[33] سورة نوح 7-12.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى