دراسات النفيس

دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: جذور التحالف الصليبي الأموي!!

دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: جذور التحالف الصليبي الأموي!!

لطالما طرح هذا السؤال نفسه علي أثناء تجولي بين صفحات (تاريخنا المفترى عليه) حسب وصف الشيخ القرضاوي!!.

بعض (أباعرنا) الفكريين والروحيين أعلنوا منذ فترة عن استعدادهم للموت دفاعا عن المملكة الوهابية في مواجهة الغزو الأمريكي الصليبي الرومي المحتمل وجاء هذا الإعلان من منطلقات وطنية قومية رومانسية عربية!!.

عن أي تهديد يتحدث هؤلاء المفاضيح؟!.

المهم أن جماعة المفاضيح العرب يزعمون أن إعلانهم هذا احتذاء (من الحذاء) بالإمام علي بن أبي طالب الذي أعلن عن رغبة مماثلة عندما هدد قيصر الروم معاوية بغزو بلاد الشام!!.

فات هؤلاء الحمقى أن قيصر الروم كان هناك في دمشق عبر المندوب السامي البيزنطي سرجون الرومي يشارك في الحرب على الإمام علي بن أبي طالب وذبح الحسين.

دعك إذا من تلك الخرافات والأكاذيب التي لا أصل لها وكأن بيزنطة كانت محايدة إزاء الحرب التي شنت على أهل بيت النبوة ولم تشارك بالفكر والرأي في هذا العدوان ولم تكن متواطئة مع العصابة الأموية في عدوانها على أمة محمد!!.

الإبقاء على النُظم البيزنطية.

أقام معاوية الدولة الأموية على أرض الشام التي كانت خاضعة لنفوذ الروم البيزنطيين الذين كانوا يتصفون بقدرٍ كبير من التنظيم في إدارة شؤون البلاد، وقد أبقى معاوية الوضع الإداري على حاله دون تغيير حيث أوكلت الإدارة المالية، إلى القائمين بها أيام الدولة البيزنطية وعلى رأسهم سرجون بن منصور ثم ابنه منصور بن سرجون، ووكّل إدارة الكتابة إلى عبد الله بن أوس الغساني مِن وجوه الغساسنة أصحاب الحلف القديم في الشام.

ويؤكد اليعقوبي على هذه الحقيقة قائلاً: واستكتب النصارى.

وظلّ معاوية على علاقة طيبة مع ملك بيزنطة، يبعث إليه بالهدايا ويستقبل منه الهدايا، واستطاع عبر هذه الهدايا بأن يفرض على ملك الروم اتخاذ سياسة الحياد، “ذكروا أن معاوية قال لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله، طرقتني في ليلتي هذه ثلاثة أخبار، ليس لي فيها ورد ولا صدر، منها أن ابن أبي حذيفة كسر سجن مصر، ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم ليغلب على الشام، ومنها أنّ علياً قد تهيأ للجيش إلينا، فما عندك؟ قال عمرو: كل هذا عظيم؛ أما ابن حذيفة فخرج في أشباهه مِن الناس، فإن تبعث إليه رجلاً يقتلهُ، وإن يُقتل فلا يضرك؛ وأما قيصر فأهد له فوالله إنّ له في الحرب لحظاً ما هو لأحدٍ من الناس.

وقد اعتبر المستشرقون الذين كتبوا عن الدولة الأموية علاقة معاوية مع الدولة البيزنطية نوعا من الإصلاح والتقدم، يقول هنري مارسيه: “وكان أول إصلاحٍ هام جداً قام به معاوية هو أنه نقل عاصمته من المدينة إلى دمشق، حيث كان في مدة ولايته الطويلة على احتكاك بالإدارة البيزنطية وقد استفاد منها تجربة السلطة.

فموقف معاوية من الروم هو موقف المسالم الذي لا يرى مبرراً للحرب معهم، يذكر اليعقوبي: “ورجع معاوية إلى الشام سنة 41هـ، وبلغهُ أن طاغية الروم قد زحف في جموع كثيرة وخلق عظيم، فخاف أن يشغله عما يحتاج إلى تدبيره وأحكامه، فوجّه إليه مصالحه على مائة ألف دينار، وكان معاوية أول من صالح الروم.

يقول يوليوس فلهوزن: “ويتكلم ثيوفانيس عن رعاية معاوية للنصارى وقد برهن عليها معاوية بأن بنى لأهل الرها كنيستهم التي هدّمتها الزلازل، وكان سرجون بن منصور من أكبر مستشاريه نفوذاً، وقد أورثه ابنه يزيد، وكان سرجون نصرانياً.

وكان الإبقاء على النُظم الإدارية والمالية التي كانت على عهد الروم البيزنطيين عاملاً مهماً في استقرار الدولة الأموية حيث لم يحدث تحوّل في الهياكل الإدارية عندما استلم المسلمون هذه البلاد.

المصدر: محاضرات التاريخ الإسلامي الجامعات العراقية.

يقول ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) ج4: (لما بويع لمعاوية استعمل علي شرطته قيس بن حمزة الهمداني وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون الرومي وعلي حرسه رجل من الموالي يقال له المختار…).

وذكر أيضا: (لما قدم مسلم بن عقيل إلى الكوفة كتب عبد الله بن مسلم إلي يزيد يخبره بقدومه ومبايعة الناس له ويقول له إن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعف ثم كتب إليه عمارة بن الوليد بن عقبة وعمرو بن سعد بن أبي وقاص بنحو ذلك فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون مولي معاوية فأقرأه الكتب واستشاره فيمن يوليه الكوفة وكان يزيد عاتبا علي عبيد الله بن زياد فقال له سرجون أرأيت لو نشر لك معاوية كنت تأخذ برأيه قال نعم فأخرج عهد عبيد الله علي الكوفة فقال هذا رأي معاوية ومات وقد أمر بهذا الكتاب فأخذ برأيه وجمع الكوفة والبصرة لعبيد الله وكتب إليه بعهده وسيره إليه مع مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة فأمره مسلم بن عقيل وبقتله أو نفيه فلما وصل كتابه إلي عبيد الله أمر بالتجهز ليبرز من الغد).

لم يكن ينفرد ابن الأثير بهذا الخبر فقد رواه أيضا ابن كثير في البداية والنهاية: ، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة وعمرو بن سعد بن أبي وقاص، فبعث يزيد فعزل النعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة، وذلك باشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية، وكان يزيد يستشيره، فقال سرجون: أكنت قابلا من معاوية ما أشار به لو كان حيا ؟ قال: نعم! قال: فاقبل مني فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد، فوله إياها. وكان يزيد يبغض عبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولاه البصرة والكوفة معا).

يقول أحمد متاريك في بحثه المنشور في عربي بوست بتارخ 12-5-2022:

لم يكن الفتح الإسلامي للشام نهاية لسيطرة المسيحيين على مقاليد الأمور في الدولة، وإنما مثّل وجهاء المسيحية “دولة عميقة” لم يحاول الفاتحون المسلمون الاصطدام بها، بل على العكس تماهوا معها واستعانوا بها في إدارتهم للشام، وأبرز هؤلاء الوجهاء هم آل سَرجُون، الذين لعبوا دوراً بارزاً في الشام في أغلب فترات الحُكم الأموي لها.

في هذه الحقبة قدّمت لنا كُتب التاريخ ربّ العائلة منصور بن سرجون بِاعتباره الشخصية المؤسسية الأولى لمجد تلك العائلة المسيحية، والذي يعدُّ أحد المفاتيح المهمة لأي حاكم ينوي فرض نفوذه على الشام.

يذكر محمد سهيل طقوش في كتابه “تاريخ الخلفاء الراشدين.. الفتوحات والإنجازات السياسية”، فإن جيوش المسلمين عندما حاصرت دمشق بشكلٍ مُحكم أجبر الحامية البيزنطية على الانسحاب، أيقن أهل دمشق أنهم مهزومون أمام المسلمين لا محالة، هنا قاد منصور بن سرجون مفاوضات الصُلح مع القائد العسكري خالد بن الوليد، والتي انتهت باستسلام المدينة أمامهم سنة 635م.

ويُضيف نجيب العقيقي في كتابه “المستشرقون”، أن منصور بن سرجون لم يكن فقط أسقف دمشق، وإنما القائم على بيت مالها أيضاً.

يقول البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم في كتابه “لبنان في تاريخه وتراثه”: إن الدور البارز الذي لعبه منصور بن سرجون في عمليتي الاستسلام والمفاوضة دفع بعددٍ من المؤرخين إلى محاولة تفسير هذا السلوك لمن افترض أنه يدين بالولاء للبيزنطيين بحُكم الوظيفة والانتماء الكنسي، فتحدّث نفرٌ منهم عن “خيانته”، فيما تمادى آخرون واعتبروا أن “منصور ارتكب أكبر خيانة بحق المسيحية في الشرق”، وكلها تفسيرات خطأ؛ فلقد كان منصور قارئاً جيداً للواقع، وعلم أن بلاده لن تصمد أبداً في حربٍ أمام المسلمين بعد تخلي البيزنطيين عنهم.

عمر بن الخطاب وسرجون

ويُضيف البطريرك، أن عمر بن الخطاب، لما زار بلاد الشام بعد اكتمال فتحها، وعقد اجتماعاته الشهيرة في منطقة البادية لتقرير السياسة الواجب اتّباعها في حُكم البلاد المهزومة، ثبّت منصوراً في منصبه، ومنحه لقب “مولى حليف”.

أبقى معاوية بن أبي سفيان على آل سرجون في مراكزهم قائمين على ديوان الخراج المركزي، وهو الوضع الذي استمرَّ طيلة عهود 3 خلفاء، هم: معاوية، ويزيد، ومروان بن الحكم.

كانت هذه الخطوة ضمن السياسة الكبرى التي اعتمدها الأمويين في حُكم البلاد المفتوحة، عبر الارتكاز على أبناء الأرض، وجذب ودّهم، حتى يكونوا دعائم راسخة تعين الدولة على النهوض. يقول أنستاس الكرملي في مقالة بمجلة “لغة العرب العراقية”: إن حكومات العرب لم يكن لها في بادئ الأمر من العربية إلا اِسمها، بل كان ذلك في كل أيام حكمهم في دمشق؛ إذ كانت في أيام حكم الأمويين عربية المظهر، سورية الإدارة.

ويضيف عبد الشافي: لم يكن سرجون رئيساً لديوان الخراج فقط، وإنما كان مستشاراً سياسيّاً مسموع الكلمة عند الخليفة.

ليس هذا وحسب، وإنما نمت علاقة وطيدة بين أسرتي معاوية وسرجون دفعتهما لتنشئة أولادهما معاً، فتحكي كُتب التاريخ عن الصداقة الحميمة التي جمعت بين ولي العهد والخليفة المرتقب يزيد بن معاوية ورجل الدولة المنتظر يوحنا بن سرجون، بالإضافة إلى الشاعر المسيحي الشهير الأخطل التغلبي، الذين جميعاً تربّوا في بلاط القصر. كما أوردت دائرة المعارف الإسلامية، أن الأخطل احتفظ بعلاقته الجيدة رغم أنه لم يكن على مذهبهم الملكاني.

ويُضيف عبد العزيز علوان في كتابه “النقد الفني في التاريخ” أن أسرة سرجون تغمدت ابنها يحيى (يوحنا) مبكراً بالرعاية، ويسّرت له سُبُل حفظ الشعر العربي والإلمام بعلوم اللغة، حتى نشأ متبحراً في شتّى أنواع الثقافات المختلفة، وهو ما زاد من إعجاب يزيد به ورغبته في مُجالسته دائماً.

وبحسب البطريرك أغناطيوس الرابع؛ فإن معاوية أوصى، وهو على فراش الموت، بأن يشترك منصور بن سرجون مع الضحّاك بن قيس ومسلم بن عقبة في تسيير أمور الدولة حتى يأتي ولي عهده يزيد ويتسلّم مهام منصبه.

وبعد وفاة معاوية، احتفظ منصور بمكانته في البلاط الدمشقي اليزيدي، بل تقدّمه الكتب باعتباره الناصح الموثوق برأيه ليزيد، ووفقاً لما ذكره ابن الأثير في كتابه “الكامل” فإن سرجون لعب دوراً هامشيّاً في واقعة مقتل الإمام الحسين في معركة كربلاء، بعدما أشار على يزيد بتعيين عبيد الله بن زياد والياً على الكوفة، وعقب توليته على المدينة التي نوى الحسين التوجه إليها حيث وقع الصدام الدموي الشهير بين الحسين ومَن تبعه مِن آل البيت، وبين القوات الأموية.

الزمن يدور بآل سرجون

يقول الصولي في كتابه “أدب الكتاب”: إن منصوراً استمرَّ كاتباً للخلفاء الأمويين حتى عهد الوليد بن عبد الملك، الذي “رأى منه توانياً”، فقرّر الإطاحة به من مكانه سنة 81هـ. ويبدو أن سرجون وصل حينها لقدرٍ عظيمٍ من النفوذ أجبر الخليفة على الاحتيال من أجل التخلُّص منه.

بحسب الصولي، قرّر الخليفة تحويل لغة الدواوين من الرومية إلى العربية، وهو ما يحتّم تغيير الكاتب إلى آخر عربي هو سليمان بن سعد، فهو أول مسلم ولي الدواوين، والذي قاد عملية التعريب، والتي كانت طريقة لبقة لإخراج سرجون من منصبه الذي بقي فيه طويلاً، وإزاء نجاح سليمان في مهمته كافأه الخليفة بـ150 ألف دينار.

وفي كتابه “تاريخ دمشق”، يقول ابن عساكر: إن الخليفة لم يُقدم على هذه الخطوة إلا بعد وفاة منصور بن سرجون، وعقب رحيله انتهز هذه الفرصة وسحب كافة الوظائف المالية التي كان يشغلها آل سرجون في الجهاز الإداري للدولة الأموية، محاولاً إنهاء نفوذهم التاريخي في الشام.

فماذا عن يوحنا الدمشقي؟

بعد تشدُّد قبضة الخلفاء الأمويين بحقِّ مسيحيي الشام، اختار يوحنا الدمشقي اعتزال العمل العام، ما بين عامي 718م و720م، والتحق بدير القديس سابا القريب من القدس، حيث قضى بقية حياته يشتغل في الأبحاث الدينية ويصنف كتباً أغلبها حقّق شهرة ساطعة في ربوع العالم المسيحي. وهو ما فنّده الدكتور جواد علي في مقالته عن سيرة يوحنا الدمشقي.

إن يوحنا الدمشقي بن منصور ورث من والده مكانته في نفوس الأمويين، وكان مقرّباً من الخليفة يزيد بن معاوية ومن أفضل أصدقائه، وعقب وفاة والده لم تتأثر مكانة يوحنا الدمشقي المرموقة في سوريا حتى خلافة هشام بن عبد الملك، حين آثر اعتزال الدنيا والمناصب الكبرى، والتحق بالخدمة في أحد أديرة فلسطين.

وخلال مكوثه في الدير اشتهر يوحنّا باطلاعه العميق على الثقافة الإسلامية، وهو ما اتّضح في كتبه اللاهوتية التي كان كثيراً ما يستشهد بآيات من القرآن أو بأحاديث عن النبي خلال سطورها، كما عارض عقيدة “الجبر والاختيار” التي سعى الأمويون لترويجها بين الناس؛ لحضّهم على الطاعة والقبول بأفعال الحاكم مهما كانت، وطيلة خدمته في الدير ألّف يوحنا الكثير والكثير من المؤلّفات حتى مُنح لقب “دفّاق الذهب”.

وصفه المؤرّخ فيليب حتّى بأنه “مفخرة من مفاخر الكنيسة التي ازدهرت في ظِل الخلافة الأموية”، بل إن بعض المؤرخين العرب، مثل الدكتور جواد علي، يعتبرون أن مؤلّفات يوحنا كان لها أثرها على الفقه الإسلامي نفسه بعدما اعتبر بأنه ساهم في إشعال جذوة “علم الكلام” بين المسلمين. كما يعتبر حسين العودات في كتابه “صورة العرب لدى الآخر”، أن كتابات يوحنا هي التي رسمت صورة الإسلام في مخيلة البيزنطيين حتى نهاية القرن السابع الميلادي[1].

الحقيقة المرة

يقولون أن فرصة التخلص من آل سرجون جاءت عندما قرر الخليفة تعريب الدواوين وتحويلها لغة من الرومية إلى العربية، وهو ما يحتّم تغيير الكاتب إلى آخر عربي هو سليمان بن سعد، أول مسلم ولي الدواوين والذي قاد عملية التعريب، والتي كانت طريقة لبقة لإخراج سرجون من منصبه الذي بقي فيه طويلاً، وإزاء نجاح سليمان في مهمته كافأه الخليفة بـ150 ألف دينار.

الأزمة التي خلفتها التبعية الأموية للبيزنطيين لم تكن قاصرة على ديوان الكتابة الذي قام بتعريبه سليمان بن سعد بل شملت مجال العملة التي هي بالأساس رمز من رموز سيادة الدولة ومدى سيطرتها على حركة التجارة الداخلية والخارجية حيث كانت العملة البيزنطية هي السائدة وكان مكتوبا عليها شعار التثليث المسيحي (أبا وأما وروحا)!!.

يروي كمال الدين محمد بن موسى الدميري في كتابه “حياة الحيوان الكبرى” دخل أبو الحسن الكسائي على هارون  العباسي ذات يوم وهو في ايوانه وبين يديه مالا كثير… فأمر بتفريقه في خدمة الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله فقال: “هل علمت أول من سن هذه الكتابة بالذهب والفضة!” قلت : “سيدي هو عبد الملك بن مروان”، قال : “فما كان السبب في ذلك؟” ، قلت : “لا اعلم غير انه أول من أحدث هذه الكتابة”، فقال : “سأخبرك” : كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانياً على دين ملك الروم، وكانت تطرز بالرومية وكان طرازها “أباً وابناً وروحاً” ، فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى ان جاء عبد الملك بن مروان فتنبه له فبينما هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر في طرازه فأمر ان يترجم بالعربية ففعل ذلك فانكره ، وقال : “ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام، ان يكون طراز القراطيس وهي تحمل في الأواني والثياب وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد على سعته وكثرة ماله، والبلد يخرج منه هذه القراطيس تدور في الأفاق والبلاد، وقد طرزت بسطر مثبت عليها”، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان ، وكان عامله بمصر بأبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وان يأمر صناع القراطيس ان يطرزوها بصورة التوحيد (شهد الله ان لا اله الا هو) وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت، لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الأفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل ، فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد ، وحمل إلى بلاد الروم ومنها انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم ، وترجم ذلك الطراز فانكره وغلظ عليه واستشاط غيظاً فكتب إلى عبد الملك ان عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم ، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى ان أبطلته ، فان كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت ، وان كنت قد أصبت فقد اخطأوا ، فاختر من هاتين الحالتين ايهما شئت وأحببت وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك ، وأحببت ان تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الإغلاق حاجة أشكرك عليها ، وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيمة القدر، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول واعلمه انه لا جواب له ورد الهدية، فانصرف بها إلى صاحبه، فلما وافاه اضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك ، وقال إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي ، فأضعفت الهدية واني ارغب إليك إلى مثل ما رغبت فيه من رد الطراز إلى ما كان عليه أولاً ، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية ، فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول انك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها ، فجريت على سبيلك الأول، وقد أضعفتها ثالثةً، وأنا احلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لأمرن بنقش الدنانير والدراهم ، فانك تعلم انه لا ينقش شيء منها الا ما ينقش في بلادي ، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها شتم نبيك ، فإذا قرأته ارفض جبينك عرقاً ، فأحب ان تقبل هديتي وترد الطراز إلى ما كان عليه، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها ونبقى على الحال بيني وبينك . فلما قرأ عبد الملك الكتاب صعب عليه الأمر .

كانت المعاملات إذا تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند احد منهم رأياً يعمل به ، فقال له روح بن زنباع: “انك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه” ، فقال : ويحك من، فقال : “عليك بالباقر من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)” قال: صدقت، ولكنه ارتج علي الرأي فيه ، فكتب إلى عامله بالمدينة ان اشخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكرماً ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأرح عليه في جهازه من يخرج معه من أصحابه ، وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي ، فلما وافاه اخبره الخبر ، فقال له الإمام محمد بن علي (عليه السلام) : “لا يعظم هذا عليك فانه بشيء من جهتين ، أحداهما ان الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، والأخر وجود الحيلة فيه ، قال : “وما هي” ، قال : تدعوا في هذه الساعة بصناع فيضربون بين يديك سككاً بالدراهم والدنانير وتجعل النقش عليها صورة التوحيد ، وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحداهما في وجه الدراهم والدنانير ، والأخر في الوجه الثاني ، وتجعل في مدار الدراهم والدنانير ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي يضرب فيها تلك الدراهم والدنانير ، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل ، فتكون اوزانها جميعاً إحدى وعشرين مثقالاً ، فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل ، وتصب صنجاب من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان فتضرب الدراهم على وزن عشرة ، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل” .

وتشير الروايات ان الدراهم كانت في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية  ، ففعل ذلك عبد الملك وأمره الامام محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) ان يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام وان يتقدم إلى الناس في التعامل بها ومعاقبة من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وان تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية، ففعل عبد الملك ذلك، ورد رسول ملك الروم إليه بذلك يقول : “ان الله عز وجل مانعك مما قد أردت ان تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا بإبطال السكك والطروز الرومية”، فقيل لملك الروم : “افعل ما كنت تهددت به ملك العرب” ، فقال : “إنما أردت ان أغيظه بما كتبت إليه ، لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم ، فأما الآن فلا افعل لان ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام” ، وامتنع من الذي قال وثبت ما أشار به الامام محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) إلى اليوم[2].

كانت هناك هيمنة واسعة للبيزنطيين أو الروم في مجالات واسعة داخل الدولة الأموية وهو ما يكشف عن مشاركة مسيحية في تأسيس هذه الدولة وهو أمر لا يمكن نفيه قبل أن تتطور العلاقة إلى صدام دموي بين البيزنطيين والعالم الإسلامي استمر إلى نهاية القرن الرابع الهجري حتى هزيمتهم على يد الحاكم بأمر الله الفاطمي في معركة آفاميه التي لا يتعرض أحد لذكرها واضطرارهم للقبول بالصلح مع العالم الإسلامي.

دكتور أحمد راسم النفيس

‏19‏/12‏/2022

 

[1] https://arabicpost.net/opinions/2022/05/12/%D8%A2%D9%84-%D8%B3%D8%B1%D8%AC%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%88/

 

 

[2] حياة الحيون الكبير للدميري ج1 ص 226-228.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى