دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: عن مصطلحات اليهود والعبرانيين وبني إسرائيل والتوراة والمشنا والتلمود
هل يرجع أصل بني إسرائيل لإحدى القبائل العربية (قوم تبع)؟!.
دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: عن مصطلحات اليهود والعبرانيين وبني إسرائيل والتوراة والمشنا والتلمود
هل يرجع أصل بني إسرائيل لإحدى القبائل العربية (قوم تبع)؟!.
وهل حقا أن مصطلحات العبرانيين واليهود واليهودية وبنو إسرائيل تشكل عناوين مختلفة بل منفصلة بعضها عن بعض؟!.
وهل حقا أن صفة العبرانيين نسبة إلى (عابر) وأن عابرا هو من سلالة هود عليه السلام وأنه الجد الأعلى لقبائل اليمن في الجنوب (الحضارمة) وفي الشمال (السبأيين) ومنه جاءت لفظة العبرانيين؟!.
وهل حقا أن بني إسرائيل هم قبيلة عربية يمنية أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الدخان (37).
الثابت تاريخيا أن بني إسرائيل هم أبناء نبي الله يعقوب عليه السلام الذين وفدوا على مصر في زمن وزارة نبي الله يوسف عليه السلام، فمن أين جاء الزعم بأنهم قبيلة عربية؟!.
الذي عليه المؤرخون ومنهم تقي الدين المقريزي حسبما ذكر في كتاب (الخطط والآثار):
موسى بن عمران: وفي التوراة عمرام بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليهم، أمّه يوحانذ بنت لاوي، فهي عمة عمران والد موسى، ولد بمصر في اليوم السابع من شهر آذار سنة ثلاثين ومائة لدخول يعقوب على يوسف عليهما السلام بمصر، وكان بنو إسرائيل منذ مات لاوي بن يعقوب في سنة أربع وتسعين لدخول يعقوب مصر في البلاء مع القبط، وذلك أن يوسف عليه السلام لما مات في سنة ثمانين من قدوم يعقوب مصر، كان الملك إذ ذاك بمصر دارم بن الريان، وهو الفرعون الرابع عندهم، وتسميه القبط دريموس، فاستوزر بعده رجلا من الكهنة يقال له بلاطس، فحمله على أذى الناس وخالف ما كان عليه يوسف، وساءت سيرة الملك حتى اغتصب كلّ امرأة جميلة بمدينة منف وغيرها من النواحي، فشق ذلك من فعله على الناس وهمّوا بخلعه من الملك، فقام الوزير بلاطس في الوساطة بينه وبين الناس وأسقط عنهم الخراج لثلاث سنين، وفرّق فيهم مالا حتى سكنوا، واتفق أن رجلا من الإسرائيليين ضرب بعض سدنة الهياكل فأدماه، وعاب دين الكهنة، فغضب القبط وسألوا الوزير أن يخرج بني إسرائيل من مصر، فأبى. وكان دارم الملك قد خرج إلى الصعيد، فبعث إليه يخبره بأمر الإسرائيليّ وما كان من القبط في طلبهم إخراج بني إسرائيل من مصر، فأرسل إليه أن لا يحدث في القوم حدثا دون موافاته، فشغب القبط وأجمعوا على خلع الملك وإقامة غيره، فسار إليهم الملك وكانت بينه وبينهم حروب قتل فيها خلق كثير، ظفر فيها الملك وصلب من خالفه بحافتي النيل طوائف لا تحصى، وعاد إلى أكثر مما كان عليه من ابتزاز النساء وأخذ الأموال واستخدام الأشراف الوجوه من القبط ومن بني إسرائيل، فأجمع الكلّ على ذمّه.واتفق أنه ركب في النيل فهاجت به الريح وأغرقه الله ومن معه، ولم توجد جثته إلّا عند شطنوف.
فأقام الوزير من بعده في الملك ابنه معاديوش، وكان صبيا، ويسميه بعضهم معدان، فاستقام الأمر له وردّ النساء اللاتي اغتصبهنّ أبوه، وهو خامس الفراعنة، فكثر بنو إسرائيل في زمنه ولهجوا بثلب الأصنام وذمّها، وهلك بلاطس الوزير وقام من بعده في الوزارة كاهن يقال له أملاده، فأمر بإفراد بني إسرائيل ناحية في البلد، بحيث لا يختلط بهم غيرهم، فأقطعوا موضعا في قلبيّ مدينة منف، صاروا إليه وبنوا فيه معبدا كانوا يتلون به صحف إبراهيم عليه السلام، فخطب رجل من القبط بعض نسائهم فأبوا أن ينكحوه، وقد كان هويها. فأكبر القبط فعلهم وصاروا إلى الوزير وشكوا من بني إسرائيل وقالوا: هؤلاء قوم عابونا ويرغبون عن مناكحتنا، ولا نحب أن يجاورونا ما لم يدينوا بديننا.
فقال لهم الوزير: قد علمتم إكرام طوطيس الملك لجدّهم ونهر اوش من بعده، وقد علمتم بركة يوسف حتى جعلتم قبره وسط النيل فأخصب جانبا مصر بمكانه، وأمرهم بالكف عن بني إسرائيل، فأمسكوا إلى أن احتجب معدان وقام من بعده في الملك ابنه اكسامس الذي يسميه بعضهم كاسم ابن معدان بن الريان بن الوليد بن دومع العمليقيّ، وهو السادس من فراعنة مصر، وكان أوّلهم يقال له فرعان، فصار اسما لكلّ من تجبر وعلا أمره، وطالت أيام كاسم ومات وزير أبيه، فأقام من بعده رجلا من بيت المملكة يقال له ظلما بن قومس، وكان شجاعا ساحرا كاهنا كاتبا حكيما داهيا متصرّفا في كل فنّ، وكانت نفسه تنازعه الملك، ويقال أنه من ولد أشمون الملك، وقيل من ولد صا. فأحبه الناس، وعمر الخراب وبني مدنا من الجانبين، ورأى في نجومه أنّه سيكون حدث وشدّة، وسكا القبط إليه من الإسرائيليين فقال: هم عبيدكم. فكان القبطيّ إذا أراد حاجة سخّر الإسرائيليّ وضربه فلا يغير عليه أحد ولا ينكر عليه ذلك. فإن ضرب الإسرائيليّ أحدا من القبط قتل البتة، وكذلك كانت تفعل نساء القبط بالنساء الإسرائيليات، فكانت أوّل شدّة وذلّ أصاب بني إسرائيل وكثر ظلمهم وأذاهم من القبط، واستبدّ الوزير ظلما بأمر البلد كما كان العزيز مع نهراوش.
وتوفي اكسامس الملك، فأتهم ظلمان بأنه سمّه، وأقام لاطس الملك مكان أبيه، وكان ابنه جريئا معجبا، فصرف ظلما بن قومس عما كان عليه من خلافته، واستخلف رجلا يقال له لاهوق من ولد صا، وأنفذ ظلما عاملا على الصعيد وسير معه جماعة من الإسرائيليين، وزاد تجبره وعتوّه، وأمر الناس جميعا أن يقوموا على أرجلهم في مجلسه، ومدّ يده إلى الأموال ومنع الناس من فضول ما بأيديهم، وقصرهم على القوت، وابتز كثيرا من النساء وفعل أكثر مما فعله ملك تقدّمه، واستعبد بني إسرائيل فأبغضه الخاص والعام، وكان ظلما لما صرف عن الوزارة وخرج إلى الصعيد، أراد إزالة الملك والخروج عن طاعته، فجبى المال وامتنع من حمله، وأخذ المعادن لنفسه وهمّ أن يقيم ملكا من ولد قبطرين ويدعو الناس إلى طاعته، ثم انصرف عن ذلك ودعا لنفسه، وكاتب الوجوه والأعيان، فافترق الناس وتطاول كل واحد من أبناء الملوك إلى الملك وطمع فيه، ويقال أنّ روحانيا ظهر لظلما وقال له: إن أطعتني قلدتك مصر زمانا طويلا، فأجابه وقرّب إليه أشياء منها غلام من بني إسرائيل، فصار عونا له، وبلغ الملك خبر خروج ظلما عن طاعته، فوجّه إليه قائدا قلده مكانه وأمره أن يقبض على ظلما. ويبعث به إليه موثقا، فسار إليه وخرج ظلما للقائه وحاربه فظفر به واستولى على ما معه، فجهز إليه الملك قائدا آخر فهزمه وسار في إثره وقد كثف جمعه، فبرز إليه الملك واحتربا، فكانت لظلما على الملك، فقتله واستولى على مدينة منف ونزل قصر المملكة.
وهذا هو فرعون موسى عليه السلام، وبعضهم يسميه الوليد بن مصعب، وقيل هو من العمالقة وهو سابع الفراعنة. ويقال أنه كان قصيرا طويل اللحية أشهل العينين صغير العين اليسرى، في جبينه شامة، وكان أعرج، وقيل أنه كان يكنّى بأبي مرّة، وأن اسمه الوليد بن مصعب، وأنه أوّل من خضب بالسواد لما شاب، دله عليه إبليس. وقيل أنه كان من القبط، فلمّا جلس في الملك اختلف الناس عليه فبذل لهم الأموال، وقاتل من خالفه بمن أطاعه حتى اعتدل أمره، ورتب المراتب وشيد الأعمال وبنى المدن وخندق الخنادق وبنى بناحية العريش حصنا، وكذلك على جميع حدود مصر، واستخلف هامان، وكان يقرب منه في نسبه، وأثار الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات، وحفر خليج سردوس وغيره، وبلغ الخراج بمصر في زمنه سبعة وتسعين ألف ألف دينار بالدينار الفرعونيّ، وهو ثلاثة مثاقيل.
وفرعون هو أوّل من عرّف العرفاء على الناس، وكان ممن صحبه من بني إسرائيل رجل يقال له أمري، وهو الذي يقال له بالعبرانية عمرام، وبالعربية عمران بن قاهث بن لاوي، وكان قدم مصر مع يعقوب عليه السلام فجعله حرسا لقصره يتولى حفظه، وعنده مفاتيحه وأغلاقه بالليل، وكان فرعون قد رأى في كهانته ونجومه أن هلاكه على يد مولود من الإسرائيليين، فمنعهم من المناكحة ثلاث سنين التي رأى أن ذلك المولود يولد فيها، فأتت امرأة أمري إليه في بعض الليالي بشيء قد أصلحته له فواقعها، فاشتملت منه على هارون، وولدته لثلاث وسبعين من عمره، في سنة سبع وعشرين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، ثم أتته مرّة أخرى فحملت بموسى لثمانين سنة من عمره، ورأى فرعون في نجومه أنه قد حمل بذلك المولود، فأمر بذبح الذكران من بني إسرائيل، وتقدّم إلى القوابل بذلك، فولد موسى عليه السلام في سنة ثلاثين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، وفي سنة أربع وعشرين وأربعمائة لولادة إبراهيم الخليل عليه السلام، ولمضيّ ألف وخمسمائة وست سنين من الطوفان، وكان من أمره ما قصه الله سبحانه من قذف أمّه له في التابوت، فألقاه النيل إلى تحت قصر الملك، وقد أرصدت أمّه أخته على بعد لتنظر من يلتقطه، فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت فرحمته وقالت: هذا من العبرانيين من لنا بظئر ترضعه؟ فقالت لها أخته أنا آتيك بها، وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون إلى أن فصل، فأتت به إلى ابنة فرعون وسمته موسى وتبنته، ونشأ عندها، وقيل بل أخذته امرأة فرعون واسترضعت أمّه ومنعت فرعون من قتله إلى أن كبر وعظم شأنه فردّ إليه فرعون كثيرا من أمره وجعله من قوّاده، وكانت له سطوة، ثم وجهه لغزو اليونانيين وقد عاثوا في أطراف مصر، فخرج في جيش كثيف وأوقع بهم فأظفره الله وقتل منهم كثيرا وأسر كثيرا وعاد غانما، فسرّ ذلك فرعون وأعجب به هو وامرأته، واستولى موسى وهو غلام على كثير من أمر فرعون، فأراد فرعون أن يستخلفه، حتى قتل رجلا من أشراف القبط له قرابة من فرعون فطلبه، وذلك أنه خرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع، فرأى عبرانيا يضرب، فقتل المصريّ الذي ضربه ودفنه، وخرج يوما آخر فإذا برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر، فزجره. فقال له: ومن جعل لك هذا، أتريد أن تقتلني كما قتلت المصريّ بالأمس، ونما الخبر إلى فرعون فطلبه، وألقى الله في نفسه الخوف لما يريد من كرامته، فخرج من منف ولحق بمدين عند عقبة أيلة، وبنو مدين أمّة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام، كانوا ساكنين هناك، وكان فراره وله من العمر أربعون سنة، فنزل عند بيرون، وهو شعيب عليه السلام من ولد مدين بن إبراهيم، وكان من تزويجه ابنته ورعايته غنمه ما كان، فأقام هنالك تسعا وثلاثين سنة نكح فيها صفوراء ابنة شعيب، وبنوا إسرائيل مع فرعون وأهل مصر كما قال تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).
فلما مضى من سنة الثمانين لموسى شهر وأسبوع، كلمه الله جلّ اسمه، وكان ذلك في اليوم الخامس عشر من شهر نيسان، وأمره أن يذهب إلى فرعون، وشدّ عضده بأخيه هارون وأيده بآيات منها قلب العصا حية وبياض يده من غير سوء وغير ذلك من الآيات العشر التي أحلها الله بفرعون وقومه، وكان مجيء الوحي من الله تعالى إليه وهو ابن ثمانين سنة، ثم قدم مصر في شهر أيار ولقي أخاه هارون، فسرّ به وأطعمه جلبانا فيه ثريد، وتنبأ هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وغدا به إلى فرعون وقد أوحي إليهما أن يأتيا إلى فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذهم من هلكة القبط وجور الفراعنة، ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأبلغا ذلك بني إسرائيل عن الله، فأمنوا بموسى واتبعوه، ثم حضرا إلى فرعون فأقاما ببابه أياما وعلى كل منهما جبة صوف، ومع موسى عصاه، وهما لا يصلان إلى فرعون لشدّة حجابه، حتى دخل عليه مضحك كان يلهو به فعرّفه أن بالباب رجلين يطلبان الاذن عليك، بزعمان أن إلههما قد أرسلهما إليك، فأمر بإدخالهما. فلما دخلا عليه خاطبه موسى بما قصه الله في كتابه، وأراه آية العصا وآيته في بياض اليد، فغاظ فرعون ما قاله موسى وهمّ بقتله، فمنعه الله سبحانه بأن رأى صورة قد أقبلت ومسحت على أعينهم فعموا، ثم أنه لما فتح عن عينيه أمر قوما آخرين بقتل موسى فأتتهم نار أحرقتهم، فازداد غيظه وقال لموسى: من أين ذلك هذه النواميس العظام؟ أسحرة بلدي علموك هذا أم تعلمته بعد خروجك من عندنا؟ فقال: هذا ناموس السماء وليس من نواميس الأرض. قال فرعون: ومن صاحبه؟ قال: صاحب البنية العليا.قال: بل تعلمتها من بلدي، وأمر بجمع السحرة والكهنة وأصحاب النواميس وقال:اعرضوا عليّ أرفع أعمالكم فإني أرى نواميس هذا الساحر رفيعة جدّا. فعرضوا عليه أعمالهم فسرّه ذلك، وأحضر موسى وقال له: لقد وقفت على سحرك وعندي من يفوق عليك.فواعدهم يوم الزينة، وكان جماعة من البلد قد اتبعوا موسى فقتلهم فرعون، ثم إنه جمع بين موسى وبين سحرته، وكانوا مائتي ألف وأربعين ألفا يعملون من الأعمال ما يحير العقول ويأخذ القلوب، من دخن ملوّنات ترى الوجوه مقلوبة مشوّهة، منها الطويل والعريض والمقلوب جبهته إلى أسفل. ولحيته إلى فوق، ومنها ما له قرون ومنها ما له خرطوم وأنياب ظاهرة كأنياب الفيلة، ومنها ما هو عظيم في قدر الترس الكبير، ومنها ما له آذان عظام وشبه وجوه القرود بأجساد عظيمة تبلغ السحاب وأجنحة مركبة على حيات عظيمة تطير في الهواء، ويرجع بعضها على بعض فيبتلعه، وحيات يخرج من أفواهها نار تنتشر في الناس، وحيات تطير وترجع في الهواء وتنحدر على كلّ من حضر لتبتلعه. فيتهارب الناس منها، وعصى تحلق في الهواء فتصير حيات برؤس وشعور وأذناب تهمّ بالناس أن تنهشهم، ومنها ما له قوائم، ومنها تماثيل مهولة، وعملوا له دخنا تغشي أبصار الناس عن النظر فلا يرى بعضهم بعضا، ودخنا تطهر صورا كهيئة النيران في الجوّ على دواب يصدم بعضها بعضا ويسمع لها ضجيج، وصورا خضرا على دواب خضر، وصورا سودا على دواب سود هائلة.فلما رأى فرعون ذلك سرّه ما رأى هو ومن حضره واغتم موسى ومن آمن به، حتى أوحى الله إليه لا تخف إنك أنت الأعلى، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا. وكان للسحرة ثلاثة رؤساء، ويقال بل كانوا سبعين رئيسا، فأسرّ إليهم موسى: قد رأيت ما صنعتم، فإن قهرتكم أتؤمنون بالله؟ فقالوا نفعل. فغاظ فرعون مسارّة موسى لرؤساء السحرة، هذا والناس يسخرون من موسى وأخيه ويهزؤون بهما، وعليهما دراعتان من صوف وقد احتز ما بليف، فلوّح موسى بعصاه حتى غابت عن الأعين وأقبلت في هيئة تنين عظيم له عينان يتوقدان، والنار تخرج من فيه ومنخريه، فلا يقع على أحد إلّا برص، ووقع من ذلك على ابنة فرعون فبرصت، وصار التنين فاغرا فاه فالتقط جميع ما عملته السحرة، ومائتي مركب كانت مملوءة حبالا وعصيا وسائر من فيها من الملاحين، وكانت في النهر الذي يتصل بدار فرعون، وابتلع عمدا كثيرة وحجارة قد كانت حملت إلى هناك ليبنى بها، ومرّ التنين إلى قصر فرعون ليبتلعه، وكان فرعون جالسا في قبة على جانب القصر ليشرف على عمل السحرة، فوضع نابه تحت القصر ورفع نابه الآخر إلى أعلاه، ولهب النار يخرج من فيه حتى أحرق مواضع من القصر، فصاح فرعون مستغيثا بموسى عليه السلام، فزجر موسى التنين فانعطف ليبتلع الناس، ففرّوا كلهم من بين يديه، وانساب يريدهم. فأمسكه موسى وعاد في يده عصا كما كان، ولم ير الناس من تلك المراكب وما كان فيها من الحبال والعصيّ والناس، ولا من العمد والحجارة وما شربه من ماء النهر حتى بانت أضه أثرا.فعند ذلك قالت السحرة: ما هذه من عمل الآدميين، وإنّما هو من فعل جبار قدير على الأشياء. فقال لهم موسى: أوفوا بعهدكم وإلّا سلطته عليكم يبتلعكم كما ابتلع غيركم، فآمنوا بموسى وجاهروا فرعون وقالوا: هذا من فعل إله السماء وليس هذا من فعل أهل الأرض. فقال: قد عرفت أنكم قد واطأتموه عليّ وعلى ملكي حسدا منكم لي، وأمر فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبوا، وجاهرته امرأته والمؤمن الذي كان يكتم إيمانه، وانصرف موسى فأقام بمصر يدعو فرعون أحد عشر شهرا، من شهر أيار إلى شهر نيسان المستقبل وفرعون لا يجيبه، بل اشتدّ جوره على بني إسرائيل واستعبادهم واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال، فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشر، واحدة بعد أخرى، وهو يثبت لهم عند وقوعها ويفزع إلى موسى في الدعاء بانجلائها، ثم يلح عند انكشافها، فإنها كانت عذابا من الله عز وجلّ، عذّب الله بها فرعون وقومه.فمنها أنّ ماء مصر صار دما حتى هلك أكثر أهل مصر عطشا، وكثرت عليهم الضفادع حتى وسخت جميع مواضعهم وقذرت عليهم عيشهم وجميع مآكلهم، وكثر البعوض حتى حبس الهواء ومنع النسيم، وكثر عليهم ذباب الكلاب حتى جرّح أبدانهم ونغص عليهم حياتهم، وماتت دوابهم وأغنامهم فجأة، وعمّ الناس الجرب والجدريّ حتى زاد منظرهم قبحا على مناظر الجذميّ، ونزل من السماء برد مخلوط بصواعق أهلك كل ما أدركه من الناس والحيوانات. وذهب بجميع الثمار، وكثر الجراد والجنادب التي أكلت الأشجار واستقصت أصول النبات، وأظلمت الدنيا ظلمة سوداء غليظة حتى كانت من غلظها تحسّ بالأجسام، وبعد ذلك كله نزل الموت فجأة على بكور أولادهم بحيث لم يبق لأحد منهم ولد بكر إلّا فجع به في تلك الليلة، ليكون لهم في ذلك شغل عن بني إسرائيل، وكانت الليلة الخامسة عشر من شهر نيسان سنة إحدى وثمانين لموسى، فعند ذلك سارع فرعون إلى ترك بني إسرائيل، فخرج موسى عليه السلام من ليلته هذه ومعه بنو إسرائيل من عين شمس، وفي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم إن كان كفايتهم، أو يشتركون مع جيرانهم إن كان أكثر، وأن ينضحوا من دمه على أبوابهم ليكون علامة، وأن يأكلوا شواه رأسه وأطرافه ومعاه ولا يكسروا منه عظما، ولا يدعوا منه شيئا خارج البيوت، وليكن خبزهم فطيرا. وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع، وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم، ويخرجوا ليلا. وما فضل من عشائهم ذلك أحرقوه بالنار، وشرّع هذا عيدا لهم ولأعقابهم، ويسمى هذا عيد الفصح، وفيها أنهم أمروا أن يستعيروا منهم حليا كثيرا يخرجون به، فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام، وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، استخرجه موسى من المدفن الذي كان فيه بإلهام من الله تعالى، وكانت عدّتهم ستمائة ألف رجل محارب سوى النساء والصبيان والغرباء، وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم، فساروا ثلاث مراحل ليلا ونهارا حتى وافوا إلى فوهة الجبروت، وتسمى نار موسى، وهو ساحل البحر بجانب الطور، فانتهى خبرهم إلى فرعون في يومين وليلة، فندم بعد خروجهم وجمع قومه وخرج في كثرة كفاك عن مقدارها قول الله عز وجل أخبارا عن فرعون أنه قال عن بني إسرائيل وعدّتهم ما قد ذكر على ما جاء في التوراة، أن هؤلاء لشرذمة قليلون، وأنهم لنا لغائطون، ولحق بهم في اليوم الحادي والعشرين من نيسان، فأقام العسكران ليلة الواحد والعشرين على شاطىء البحر، وفي صبيحة ذلك اليوم أمر موسى أن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه، ففلق الله لبني إسرائيل البحر اثني عشر طريقا، عبر كلّ سبط من طريق، وصارت المياه قائمة عن جانبهم كأمثال الجبال، وصير قاع البحر طريقا مسلوكا لموسى ومن معه، وتبعهم فرعون وجنوده، فلما خاض بنو إسرائيل إلى عدوة الطور انطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقهم الله جميعا ونجا موسى وقومه، ونزل بنو إسرائيل جميعا في الطور وسبجوا مع موسى بتسبيح طويل قد ذكر في التوراة، وكانت مريم أخت موسى وهارون تأخذ الدف بيديها، ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول، وهي ترتل التسبيح لهنّ.ثم ساروا في البرّ ثلاثة أيام، وأقفرت مصر من أهلها، ومرّ موسى بقومه ففني زادهم في اليوم الخامس من أيار فضجوا إلى موسى، فدعا ربه فنزل لهم المنّ من السماء، فلما كان اليوم الثالث والعشرون من أيار عطشوا وضجوا إلى موسى، فدعا ربه ففجر له عينا من الصخرة، ولم يزل يسير بهم حتى وافوا طور سينين غرّة الشهر الثالث لخروجهم من مصر، فأمر الله موسى بتطهير قومه واستعدادهم لسماع كلام الله سبحانه، فطهرهم ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الثالث وهو السادس من الشهر، رفع الله الطور وأسكنه نوره وظلل حواليه بالغمام وأظهر في الآفاق الرعود والبروق والصواعق، وأسمع القوم من كلامه عشر كلمات وهي: أنا الله ربكم واحد لا يكن لكم معبود من دوني، لا تحلف باسم ربك كاذبا، اذكر يوم السبت واحفظه، برّ والديك وأكرمهما، لا تقتل النفس، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بشهادة زور، لا تحسد أخاك فيما رزقه. فصاح القوم وارتعدوا وقالوا لموسى: لا طاقة لنا باستماع هذا الصوت العظيم، كن السفير بيننا وبين ربنا، وجميع ما يأمرنا به سمعنا وأطعنا، فأمرهم بالإنصراف وصعد موسى إلى الجبل في اليوم الثاني عشر، فأقام فيه أربعين يوما، ودفع الله إليه اللوحين الجوهر المكتوب عليهما العشر كلمات ونزل في اليوم الثاني والعشرين من شهر تموز، فرأى العجل، فارتفع الكتاب وثقلا على يديه فألقاهما وكسرهما، ثم برد العجل وذرّاه على الماء وقتل من القوم من استحق القتل، وصعد إلى الجبل في اليوم الثالث والعشرين من تموز ليشفع في الباقين من القوم، ونزل في اليوم الثاني من أيلول بعد الوعد من الله له بتعويضه لوحين آخرين مكتوبا عليهما ما كان في اللوحين الأوّلين، فصعد إلى الجبل وأقام أربعين ليلة أخرى، وذلك من ثالث أيلول إلى اليوم الثاني عشر من تشرين، ثم أمره الله بإطلاح القبة وكان طولها ثلاثين ذراعا في عرض عشرة أذرع وارتفاع عشرة أذرع، ولها سرادق مضروب حواليها مائة ذراع في خمسين ذراعا وارتفاع خمسة أذرع. فأخذ القوم في إصلاحها وما تزين به من الستور من الذهب والفضة والجواهر ستة أشهر الشتاء كله، ولما فرغ منها نصبت في اليوم الأوّل من نيسان في أوّل السنة الثانية، ويقال أنّ موسى عليه السلام حارب هنالك العرب، مثل طسم وجديس والعماليق وجرهم وأهل مدين حتى أفناهم جميعا، وأنه وصل إلى جبل فاران، وهو مكة، فلم ينج منهم إلّا من اعتصم بملك اليمن أو انتمى إلى بنى إسماعيل عليه السلام، وفي ثلثي الشهر الباقي من هذه السنة ظعن القوم في برّية الطور بعد أن نزلت عليهم التوراة، وجملة شرائعها ستمائة وثلاث عشرة شريعة، وفي آخر الشهر الثالث حرّمت عليهم أرض الشام أن يدخلوها، وحكم الله تعالى عليهم أن يتيهوا في البرّية أربعين سنة، لقولهم نخاف أهلها لأنهم جبارون، فأقاموا تسع عشرة سنة في رقيم، وتسع عشرة سنة في أحد، وأربعين موضعا مشروحة في التوراة، وفي اليوم السابع من شهر أيلول من السنة الثانية خسف الله بقارون وبأوليائه بدعاء موسى عليه السلام عليهم لما كذبوا، وفي شهر نيسان من السنة الأربعين توفيت مريم ابنة عمران أخت موسى عليه السلام، ولها مائة وست وعشرون سنة.وفي شهر آب منها مات هارون عليه السلام وله مائة وثلاث وعشرون سنة، ثم كان حرب الكنعانيين وسيحون والعوج صاحب البثنية من أرض حوران. في الشهور التي بعد ذلك إلى شهر شباط، فلما أهلّ شباط أخذ موسى في إعادة التوراة على القوم، وأمرهم بكتب نسختها وقراءتها وحفظ ما شاهدوه من آثاره وما أخذوه عنه من الفقه، وكان نهاية ذلك في اليوم السادس من آذار، وقال لهم في اليوم السابع منه: إني في يومي هذا استوفيت عشرين ومائة سنة، وإنّ الله قد عرّفني أنه يقبضني فيه، وقد أمرني أن أستخلف عليكم يوشع بن نون ومعه السبعون رجلا الذين اخترتهم قبل هذا الوقت، ومعهم العازر بن هارون أخي فاسمعوا له وأطيعوا، وأنا أشهد عليكم الله الذي لا إله إلّا هو، والأرض والسماوات، أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ولا تبدّلوا شرائع التوراة بغيرها، ثم فارقهم وصعد الجبل فقبضه الله تعالى هناك وأخفاه، ولم يعلم أحد منهم قبره ولا شاهده، وكان بين وفاة موسى وبين الطوفان ألف وستمائة وست وعشرون سنة، وذلك في أيام منوجهر ملك الفرس، وزعم قوم أن موسى كان ألثغ، فمنهم من جعل ذلك خلقة، ومنهم من زعم أنه إنما اعتراه حين قالت امرأة فرعون لفرعون لا تقتل طفلا لا يعرف الجمر من التمر.فلما دعا له فرعون بهما جميعا تناول جمرة فأهوى بها إلى فيه، فاعتراه من ذلك ما اعتراه، وذكر محمد بن عمر الواقديّ: أن لسان موسى كانت عليه شامة فيها شعرات، ولا يدل القرآن على شيء من ذلك، فليس في قوله تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي[طه/ ٢٧] دليل على شيء من ذلك دون شيء، فأقاموا بعده ثلاثين يوما يبكون عليه إلى أن أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون بترحيلهم، فقادهم وعبر بهم الأردن في اليوم العاشر من نيسان، فوافوا أريحا، فكان منهم ما هو مذكور في مواضعه، فهذه جملة خبر موسى عليه السلام.
تلك هي قصة موسى عليه السلام وفرعون الواردة في القرآن الكريم كما أوضحها لنا المقريزي في الخطط والآثار نقلا عمن سبقه من المؤرخين وهي أقرب ما تكون إلى الصحة.
الزعم بأن (بنو إسرائيل) قبيلة جاءت من الجزيرة العربية لا تعدو أن تكون شطحة كبيرة إذ أن هذا الإسم اكتسب وجوده بسبب انتقال يعقوب عليه السلام الذي هو (إسرائيل) إلى مصر.
أما كلمة عبرانيين فكانت أيضا تستخدم لوصف تلك الكتلة البشرية التي ينمتي إليها موسى عليه السلام حسب النص الذي أورده المقريزي (فألقاه النيل إلى تحت قصر الملك، وقد أرصدت أمّه أخته على بعد لتنظر من يلتقطه، فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت فرحمته وقالت: هذا من العبرانيين من لنا بظئر ترضعه؟ فقالت لها أخته أنا آتيك بها).
التفرقة أيضا بين اليهودية وبني إسرائيل وأن اليهودية تشكل انشقاقا عن بني إسرائيل فهي أيضا شطحة مبالغ فيها إذ أن موسى عليه السلام الذي أنزلت عليه التوراة إنما أرسل لتخليص بني إسرائيل من العسف والجور الذي سلطه عليهم فرعون (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) سورة طه 47-48.
الاستدلال على التباين بين بني إسرائيل واليهودية بأن الله مدح بني إسرائيل وذم اليهود هو أيضا شطحة كبيرة فالله تبارك وتعالى مدح أصحاب النبي عندما أحسنوا وذمهم حين أساءوا والسلوك البشري الديني ليس خطا حديديا يسير عليه قطار بل هو خيار مرن تتقلب فيه القلوب والأبصار وذلك معنى قوله تعالى (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) يونس 93-94.
هل جاء بنو إسرائيل من الجزيرة العربية أم عادوا إليها؟
وما زال النقل عن المقريزي:
ويقال أنّ موسى عليه السلام حارب هنالك العرب، مثل طسم وجديس والعماليق وجرهم وأهل مدين حتى أفناهم جميعا، وأنه وصل إلى جبل فاران، وهو مكة، فلم ينج منهم إلّا من اعتصم بملك اليمن أو انتمى إلى بنى إسماعيل عليه السلام، وفي ثلثي الشهر الباقي من هذه السنة ظعن القوم في برّية الطور بعد أن نزلت عليهم التوراة، وجملة شرائعها ستمائة وثلاث عشرة شريعة، وفي آخر الشهر الثالث حرّمت عليهم أرض الشام أن يدخلوها، وحكم الله تعالى عليهم أن يتيهوا في البرّية أربعين سنة، لقولهم نخاف أهلها لأنهم جبارون، فأقاموا تسع عشرة سنة في رقيم، وتسع عشرة سنة في أحد، وأربعين موضعا مشروحة في التوراة.
انتهى النقل
الغريب أن الكلام عن فاران يتطابق مع ما ورد في دعاء السمات المروي عن الصادق والباقر عليهما السلام مما يعني أن الصورة الذهنية السائدة عن خارطة تحرك بني إسرائيل شرقا بقيادة موسى عليه السلام تحتاج لإعادة فحص وتحقيقي وتدقيق.
(وَاَسْأَلُكَ بِكَلِمَتِكَ الَّتى غَلَبَتْ كُلَّ شَىْء، وَبِنُورِ وَجْهِكَ الَّذى تَجَلَّيْتَ بِهِ لِلْجَبَلِ فَجَعَلْتَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً، وَبِمَجْدِكَ الَّذى ظَهَرَ عَلى طُورِ سَيْنآءَ فَكَلَّمْتَ بِهِ عَبْدَكَ وَرَسُولَكَ مُوسَى بْنَ عِمْرانَ، وَبِطَلْعَتِكَ فى ساعيرَ وَظُهُورِكَ فى جَبَلِ فارانَ بِرَبَواتِ الْمُقَدَّسينَ وَجُنُودِ الْمَلائِكَةِ الصّافّينَ وَخُشُوعِ الْمَلائِكَةِ الْمُسَبِّحينَ، وَبِبَرَكاتِكَ الَّتى بارَكْتَ فيها عَلى اِبْراهيمَ خَليلِكَ عليه السلام فى اُمَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَبارَكْتَ لاِسْحقَ صَفِيِّكَ فى اُمَّةِ عيسى عليهما السلام، وَبارَكْتَ لِيَعْقُوبَ اِسْرآئيلِكَ فى اُمَّةِ مُوسى عليهما السلام، وَبارَكْتَ لِحَبيبِكَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فى عِتْرَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَاُمَّتِهِ، اَللّـهُمَّ وَكَما غِبْنا عَنْ ذلِكَ وَلَمْ نَشْهَدْهُ وَآمَنّا بِهِ وَلَمْ نَرَهُ صِدْقاً وَعَدْلاً اَنْ تُصَلِّىَ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَاَنْ تُبارِكَ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَتَرَحَّمَ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد كَاَفْضَلِ ما صَلَّيْتَ وَبارَكْتَ وَتَرَحَّمْتَ عَلى اِبْراهيمَ وَآلِ اِبْراهيمَ اِنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ فَعّالٌ لِما تُريدُ وَاَنْتَ عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ (شَهيدٌ).
ورغم أن السائد في المخيلة الجمعية أن موسى عبر البحر الأحمر في خليج السويس ووصل إلى سيناء ومنها إلى فلسطين فالرواية الواردة هنا تقول شيئا مغايرا وهو أن موسى ومعه بنو إسرائيل عبروا البحر وصولا إلى الجزيرة العربية وصولا إلى مكة والمدينة المنورة وأن هذا سبب وجود فريق منهم في المدينة المنورة وهم بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع.
إعادة النظر في خارطة خروج وموسى وقومه من مصر لن تغير شيئا في تلك المصطلحات فالعبرانيون هو عنوان عام شمل بني إسرائيل الموجدون في مصر قبل بعثة موسى عليه السلام وبنو إسرائيل لم يأتوا من الجزيرة العربية بل ذهبوا إليها صحبة موسى عليه السلام.
يبقى الحديث عن اليهودية التي هي في رأينا مزج بين الألواح التي نزلت على موسى عليه السلام والمشنا التي كتبها (الأحبار بأيديهم).
التوراة والمشنا والتلمود
يقول تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) البقرة (79).
يقول المقريزي في الخطط تحت عنوان:
ذكر معتقد اليهود وكيف وقع عندهم التبديل
اعلم أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على نبيه موسى عليه السلام، ضمنها شرائع الملة الموسوية، وأمر فيها أن يكتب لكلّ من يلي أمر بني إسرائيل كتاب يتضمن أحكام الشريعة لينظر فيه. ويعمل به، وسمي هذا الكتاب بالعبرانية مشنا، ومعناه استخراج الأحكام من النص الإلهيّ، وكتب موسى عليه السلام، بخط يده مشنا كأنه تفسير لما في التوراة من الكلام الإلهيّ، فلما مات موسى عليه السلام، وقام من بعده بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون، ومن بعده إلى أن كانت أيام يهوياقيم ملك القدس، غزاهم بخت نصر الغزوة الأولى، وهم يكتبون لكل من ملكهم مشنا، ينقلونها من المشنا التي بخط موسى ويجعلونها باسمه، فلما جلا بخت نصر يهوياقيم الملك ومعه أعيان بني إسرائيل وكبراء بيت المقدس، وهم في زيادة على عشرة آلاف نفس، ساروا ومعهم نسخ المشنا التي كتبت لسائر ملوك بني إسرائيل بأجمعها إلى بلاد المشرق، فلما سار بخت نصر من باب الكرّة الثانية لغزو القدس، وخرّبه، وجلا جميع من فيه وفي بلاد بني إسرائيل من الأسباط الاثني عشر إلى بابل أقاموا بها، وبقي القدس خرابا لا ساكن فيه مدّة سبعين سنة، ثم عادوا من بابل بعد سبعين سنة وعمروا القدس، وجدّدوا بناء البيت ثانيا ومعهم جميع نسخ المشنا التي خرجوا بها أوّلا.
فلما مضت من عمارة البيت الثاني بعد الجلاية ثلاثمائة ونيف من السنين، اختلف بنو إسرائيل في دينهم اختلافا كثيرا، فخرج طائفة من آل داود عليه السلام من بيت المقدس وساروا إلى الشرق، كما فعل آباؤهم أوّلا، وأخذوا معهم نسخا من المشنا التي كتبت للملوك من مشنا موسى التي بخطه، وعملوا بما فيها ببلاد الشرق، من حين خرجوا من القدس إلى أن جاء الله بدين الإسلام، وقدم عانان رأس الجالوت من المشرق إلى العراق في خلافة أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور، سنة ست وثلاثين ومائة من سني الهجرة المحمدية.وأما الذين أقاموا بالقدس من بني إسرائيل بعد خروج من ذكرنا إلى الشرق من آل داود، فإنهم لم يزالوا في افتراق واختلاف في دينهم إلى أن غزاهم طيطش، وخرّب القدس الخراب الثاني بعد قتل يحيى بن زكريا ورفع المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وسبى جميع من فيه وفي بلاد بني إسرائيل بأسرهم، وغيب نسخ المشنا التي كانت عندهم، بحيث لم يبق معهم من كتب الشريعة سوى التوراة، وكتب الأنبياء، وتفرّق بنو إسرائيل من وقت تخريب طيطش بيت المقدس في أقطار الأرض، وصاروا ذمّة إلى يومنا هذا، ثم إن رجلين ممن تأخروا إلى قبيل تخريب القدس يقال لهما شماي وهلال، نزلا مدينة طبرية وكتبا كتابا سمياه مشنا، باسم مشنا موسى عليه السلام، وضمنا هذا المشنا الذي وضعاه أحكام الشريعة، ووافقهما على وضع ذلك عدّة من اليهود، وكان شماي وهلال في زمن واحد، وكانا في أواخر مدّة تخريب البيت الثاني، وكان لهلال ثمانون تلميذا، أصغرهم يوحانان بن زكاي، وأدرك يوحانان بن زكاي خراب البيت الثاني على يد طيطش، وهلال وشماي أقوالهما مذكورة في المشنا، وهي في ستة أسفار تشتمل على فقه التوراة، وإنما رتبها النوسيّ من ولد داود النبيّ بعد تخريب طيطش للقدس بمائة وخمسين سنة، ومات شماي وهلال ولم يكملا المشنا فأكمله رجل منهم يعرف بيهودا من ذرية هلال وحمل اليهود على العمل بما في هذا المشنا، وحقيقته أنه يتضمن كثيرا مما كان في مشنا النبيّ موسى عليه السلام، وكثيرا من آراء أكابرهم. فلما كان بعد وضع هذا المشنا بنحو خمسين سنة، قام طائفة من اليهود يقال لهم السنهدوين، ومعنى ذلك الأكابر، وتصرّفوا في تفسير هذا المشنا برأيهم، وعملوا عليه كتابا اسمه التلمود، أخفوا فيه كثيرا مما كان في ذلك المشنا، وزادوا فيه أحكاما من رأيهم، وصاروا منذ وضع هذا التلمود الذي كتبوه بأيديهم وضمنوه ما هو من رأيهم ينسبون ما فيه إلى الله تعالى، ولذلك ذمّهم الله في القرآن الكريم بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ[البقرة/ ٧٩] وهذا التلمود نسختان مختلفتان في الأحكام، والعمل إلى اليوم على هذا التلمود عند فرقة الربانيين بخلاف القرّائين، فإنهم لايعتقدون العمل بما في هذا التلمود. فلما قدم عانان رأس الجالوت إلى العراق، أنكر على اليهود عملهم بهذا التلمود، وزعم أن الذي بيده هو الحق، لأنه كتب من النسخ التي كتبت من مشنا موسى عليه السلام الذي بخطه، والطائفة الربانيون، ومن وافقهم لا يعوّلون من التوراة التي بأيديهم إلّا على ما في هذا التلمود، وما خلف ما في التلمود لا يعبأون به، ولا يعوّلون عليه، كما أخبر تعالى إذ يقول حكاية عنهم: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ[الزخرف/ ٢٢] .
ومن اطلع على ما بأيديهم وما عندهم من التوراة تبين له أنهم ليسوا على شيء، وأنهم إن يتبعون إلّا الظنّ وما تهوى الأنفس، ولذلك لما نبغ فيهم موسى بن ميمون القرطبيّ، عوّلوا على رأيه، وعملوا بما في كتاب الدلالة وغيره من كتبه، وهم على رأيه إلى زمننا.[ انتهى النقل
هذا ما لدينا عن تلك العناوين الهامة والجوهرية وعذرا لإطالة النقل عن تقي الدين المقريزي فهو مؤرخ منصف عالم لم يأخذه الميل والهوى نحو طمس الحقائق فالرجل لم يعش معنا في هذا الزمن الأغبر زمن العلو اليهودي الأخير.
دكتور أحمد راسم النفيس
11/12/2022