دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: هل حقا أن ابن خلدون هو (أول من حاول صياغة نظرية الأمن القومي العربي)؟؟.
دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: هل حقا أن ابن خلدون هو (أول من حاول صياغة نظرية الأمن القومي العربي)؟؟.
استوقفني ما كتبه الدكتور حمزة عامر في جريدة القاهرة الصادرة بتاريخ 14 سبتمبر 2004 تحت هذا العنوان في نفس الوقت الذي كنت أفكر في تلك الأحاجي المتعلقة بالسيد ابن خلدون وما ينسب إليه من أساطير وكرامات فاقت الوصف والخيال.
فهو من وجهة نظر (سلوى شرف) واضع علم الاجتماع على أسسه الحديثة ولم يسبقه إلى ذلك أحد حتى الآن تقريبا وقد تجمعت لديه ثروة طائلة من العلوم والمعرفة بنواحيها المختلفة (مجلة المعلم شبكة الإنترنت).
أما علاء البوزيدي (الفسطاط محرم 1404) فيرى أن (مقدمة ابن خلدون تجسد فلسفة وأسس علم الاجتماع وأن صاحبها قد حاز قصب السبق في هذا الميدان لأنه قام بوضع أسس وقواعد هذا العلم، ومهّد الطريق للباحثين الذي أتوا من بعده ونظراً لما أبدعه ابن خلدون من منهجية صائبة فقد كان موضع إعجاب وتقدير الجميع في تلك الحقبة التي عاصرها كما استحوذ أيضا على إعجاب الألمان نتيجة تذوقهم لروعة أسلوبه وعمق تفكيره واستوعبوا ذلك من خلال الترجمة التي قام بها المستشرق “فون هامار” كما لم يخفِ علماء أوروبا وفلاسفتها إعجابهم واعترافاتهم بتفوق هذا الفيلسوف العربي المغربي).
وهو أيضا من وجهة نظر المبهورين به عبقري بلا منازع.. قال عنه المستشرق ليفي بروفنسال: “إن صفات العبقرية عند صاحب المقدمة تتجلى في كونه أحرز قصب السبق في مجالات المعارف الإنسانية مما جعله في مسار يثير نزعة المعاصرين له من المؤرخين مسار حدد فيه لنفسه مكانته الخاصة المرموقة في مصاف العظماء ذلك أن منهجيته في فن التاريخ تعكس نظرة مطلقة أهّلته لإدراك حقيقته الخفية ومعناه البعيد وفي الوقت الذي ارتقى فيه الفكر الخلدوني إلى مستوى عال في فلسفة التاريخ بينما عكف بعض المؤرخين أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم على دراسة التاريخ على أساس أنه سجل للحوادث والوقائع وهكذا يتجلى التميز في الاجتهاد الخلدوني الذي اعتبر التاريخ موضوعا له صلة جوهرية بأعمال البشر ونشاطاتهم وأوضاعهم وأحوالهم في حياتهم واجتماعاتهم).
أما ابن خلدون فيمدح نفسه قائلا “فأنشأتُ في التاريخ كتاباً وأبديتُ فيه لأولية الدول عملاً وأسباباً وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً واخترعتُ من بين المناحي مذهباً عجيباً وطريقة مبتدعة وأسلوباً وشرحت من أحوال التمدن والعمران وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها”. نفس المصدر
أما “الهنائي والحراصي” فيعتبران أن ابن خلدون (هو بحق رائد دراسة الدولة حيث يرى في الدولة ضرورة اجتماعية ذلك لاحتياج الناس إلى الوازع الذي يكبح ميل الإنسان الطبيعي إلى العنف والفكرة المحورية عند صاحب المقدمة هي “العصبية” وقد فسرها البعض على أنها الشعور الجماعي غير أن ثمة تعريفات أكثر عمقا كتعريف لاكوست الذي يرى أن العصبية “هي حقيقة اجتماعية سياسية غاية في التعقيد ذات أبعاد نفسانية مهمة” وهناك تعريف الجابري الذي يرى أنها “رابطة اجتماعية سيكولوجية شعورية ولا شعورية تربط بين أفراد جماعة ما قائمة على القرابة المادية أو المعنوية ربطا مستمرا يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد كأفراد أو كجماعة” إن نظرية ابن خلدون ترى أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك وهو ما لا يتحقق إلا بالالتحام بين أفراد مجموعة تشترك في نفس العصبية (ابن خلدون 1996، 131).
وهناك مفهوم آخر في نظرية ابن خلدون هو مفهوم العمران وهو ضد الخلاء ويعني به ابن خلدون الاجتماع البشري الذي يتم من التساكن والتنازل في قطر أو مكان ما ومن العمران ما هو حضري وما هو بدوي (الجابري) ويستخدم ابن خلدون لفظ العمران في مواضع عدة في المقدمة ويهبه معنى متنوعا شاسعا يغطي كل شيء من مفهوم العالم المسكون الجغرافي إلى مفهوم الاجتماع وهنا يفرق ابن خلدون ثانية بين شكلين من أشكال العمران وهما العمران البدوي والعمران الحضري ويشير الأول إلى حياة سكان الريف والبدو على وجه الخصوص أما العمران الحضري فيشير إلى سكان المدن سواء أعاشوا في مدن كبيرة أو في قرى صغيرة (لاكوست 1984، 93). وحسب هذه النظرية فإن قيام الدول يتم خلال فترة التحول من حالة العمران البدوي إلى حالة العمران الحضري (هنداوي 1996، 87).
ويضيف ابن خلدون بأن “كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان” وأن للدول “أعمارا طبيعية كما للأشخاص” يقدره ابن خلدون بمائة وعشرين عاما ويضيف بأن “الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متعددة هي على وجه العموم لا تتجاوز خمس مراحل لكل مرحلة منها ما يميزه من الصفات والملامح).
أما الدكتور/ محمود إسماعيل فقرر على ما يبدو أن يسير عكس الاتجاه ليفسد هذا الحفل البهيج عندما قال (أن سائر النظريات التي نسبت إلى ابن خلدون منقولة عن رسائل إخوان الصفا وغيرهم مثل الطرطوشي وابن رضوان والماوردي وابن النفيس، والقزويني في كتابه “آثار البلاد وأخبار العباد”).
أهمية التصدي لهذه الضجة الاحتفالية:
يعلم كل من له علاقة بالعلم أن الأمانة العلمية تقضي بأن يرد الباحث الفضل إلى أهله لا أن ينسبه إلى نفسه وأن مثل هذا التصرف حال ثبوته يجعل الباحث موضع شك واتهام صحيح أننا اعتدنا على ركل هذه الأمانة بالأقدام مثلما اعتدنا على تجاهل أطنان الوثائق التي لا تروق لنا أو لا توافق مذهبنا أو قد ينغص صفونا أن نعترف بأصحاب هذه الوثائق وبإسهاماتهم العلمية ولهذا وبغض النظر عن رأينا فيما قدمه ابن خلدون فالتسليم بأنه (أول) وأنه من (اخترع) كما قال هو بنفسه ثم تعضيد كل هذا الدجل بآراء الألمان كونهم من الألمان الذين يختلفون مع الأمريكان!! فإن هذا هو الانحطاط والتخلف التي بعينه.
أن يقول دراويش ابن خلدون أنه (أهم) أو (أعظم) فلا بأس فالأمر ساعتها يصبح وجهة نظر أما إذا قيل أنه الأوحد بلا دليل يثبت هذا الافتراض الوهمي فتلك مصيبة كبرى وكارثة عظمى تكشف عن سر هذا الحضيض الذي لم نعد نطيق الحياة بدونه.
وهناك كارثة أخرى تتمثل في عقد مقارنة بين ابن جرير الطبري والمسعودي من ناحية وابن خلدون من ناحية أخرى وانتقاص هؤلاء لأنهم قدموا لنا سردا للتاريخ في حين أن ابن خلدون قدم لنا رأيا يحتمل الخطأ والصواب وبالتالي فإن قراءة التاريخ قراءة نقدية هو مهمة مختلفة تماما عن قراءته قراءة سردية (يفترض أنها محايدة) بغض النظر عن رأي المؤرخ فيها ولا يمكن الاستغناء بهذه عن تلك ولا يحق لأي مؤرخ أن يحاول فرض وجهة نظره على الرأي العام أيا كانت خطأها أو صوابها.
ماذا قال ابن خلدون؟؟.
أولا: باب (في أن الظلم مؤذن بخراب العمران): “اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وخف ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره واختل باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ثم حكى عن المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام الذي قال للملك (أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل والعدل المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعله له قيما وهو الملك وأنت أيها الملك عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنظر في العواقب وما يصلح الضياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها فقلت العمارة وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع المواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة وردت على أربابها وحملوا على رسومهم السالفة وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم وأخصبت البلاد وكثرت الأموال وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور وأقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيامه وانتظم ملكه) المقدمة ص 286-288.
* كلامه عن الحجاب (في أن الحجاب كيف يقع في الدول وفي أنه يعظم عند الهِرم): اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه لأنه لا بد لها من العصبية التي يتم بها أمرها ويحصل استيلاؤها والبداوة هي شعار العصبية والدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك وإن كان قيامها بعز الغلب فقط فالبداوة هي شعار العصبية والدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك وإن كان قيامها بعز الغلب فقط فالبداوة التي يحصل بها الغلب بعيدة أيضا عن منازع الملك ومذاهبه فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الإذن فإذا رسخ عزه وصار إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه لما يكثر حينئذ بحاشيته فيطلب الانفراد من العامة ما استطاع ويتخذ حاجبا له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة ثم إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعه استحالت أخلاق صاحب الدولة إلى أخلاق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها وربما جهل تلك الأخلاق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوا وصاروا إلى حالة الانتقام منه) المقدمة ص 391.
باب (في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره): اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع البشري ضروري وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه وانه لا بد لهم من وازع حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأسا ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة فإن هذه غير تلك وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير ثم عن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين أحدهما يراعى فيه المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملة ولعهد الخلافة لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة وأحكام الملك مندرجة فيها الوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعا وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وغيره إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم فقوانينها إذا مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية والاقتداء فيها بالشرع أولا ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله ابن طاهر لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور) ثم ذكر ابن خلدون كتاب طاهر بن الحسين لابنه بطوله ص 303 المقدمة وهو مذكور أيضا في تاريخ الطبري ج8- 582-590.
رأي العبقري في سبب نكبة البرامكة: نموذج من إبداعات ابن خلدون المزعومة: يقول عبقري زمانه وواحد دهره!! (ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين ما ينقلونه كافة عن سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه وأنه لكلفه بمكانهما من معاقرته إياهما الخمر أذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة حرصا على اجتماعهما في مجلسه وأن العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبه حتى واقعها (زعموا في حالة السكر) فحملت ووشى بذلك للرشيد فاستغضب وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها وأبويها وجلالها وأنها بنت عبد الله بن عباس وليس بينها وبينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده والعباسة بنت محمد المهدي ابن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السجاد ابن علي أبي الخلفاء ابن عبد الله ترجمان القرآن ابنة خليفة أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النبوية وصحبة الرسول وعمومته وإقامة الملة ونور الوحي ومهبط الملائكة من سائر جهاتها قريبة عهد ببداوة العروبية وسذاجة الدين البعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش فأين يطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطهارة والذكاء إذا فقدا من بيتها أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنس شرفها العربي بمولى من العجم جذبت دولتهم بضبعه وضبع أبيه ورقتهم إلى منازل الأشراف وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي العجم ولو نظر المتأمل في ذلك نظر المنصف وقاس العباسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها وفي سلطان قومها وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة واحتجافهم على أموال الجباية حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه سلطانه ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم واحتازوها عمن سواهم من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم كل ذلك لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون ولي عهد وخليفة حتى شب في حجره ودرج من عشه وغلب على أمره وكان يدعوه يا أبت فتوجه الإيثار من السلطان إليهم وعظمت الدالة منهم وانبسط الجاه عندهم وانصرفت الوجوه إليهم وخضعت لهم الرقاب وقصرت عليهم الآمال وتخطت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء وتسربت إلى خزائنهم في سبيل التزلف والاستمالة أموال الجباية وأفاضوا في رجال الشيعة وعظماء القرابة العطاء وطوقوهم المنن وكسبوا من بيوتات الأشراف المعدم وفكوا العاني ومُدحوا بما لم يمدح بها خليفتهم حتى أسفوا البطانة وأحقدوا الخاصة وأغصوا أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد وكثر الساعون عليهم من أمثال بني قحطبة أخوال جعفر وانتهى بهم الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصتهم في يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الخارج على المنصور ويحيى هذا هو الذي استنزله الفضل بن يحيى على أمان الرشيد بخطه وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطبري ودفعه الرشيد إلى جعفر وجعل اعتقاله بداره إلى نظرة فحبسه مدة ثم حملته الدالة على تخلية سبيله والاستبداد بحل عقاله حرما لدماء أهل البيت بزعمه ودالة على السلطان في حكمه وسأله الرشيد لما وشى به إليه ففطن وقال أطلقته فأبدى له وجه الاستحسان وأسرها في نفسه فأوجد السبيل بذلك على نفسه وقومه حتى ثل عرشهم وألقيت عليه سماؤهم وخسفت الأرض بهم وبدارهم وذهبت سلفا ومثلا للآخرين أيامهم ومن تأمل أخبارهم واستقصى سير الدولة وسيرهم وجد ذلك محقق الأثر ممهد الأسباب وأما ما تموه به الحكاية من معاقرة الرشيد للخمر واقتران سكره بسكر الندمان فحاشا لله ما علمنا عليه من سوء وأين هذا من حال الرشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة وما كان عليه من صحبة العلماء والأولياء ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السماك وابن العمري ومكاتبته سفيان الثوري وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه وما كان عليه من العبادة وشهود الصبح لأول وقتها) مقدمة ابن خلدون 15-17.
ابن خلدون ومدرسته (الفريدة) في قراءة التاريخ:
وقبل أن نجيب على السؤال الأهم عن المصدر الذي استقى منه ابن خلدون مخترعاته العبقرية ثم نسبها إلى نفسه نتحدث عن فلسفته التاريخية التي ذكرنا نموذجا منها في تعليله لأسباب نكبة البرامكة والتي لا تختلف كثيرا عن فلسفة وزراء الداخلية والإعلام العرب والتي ترى أن السلطان دائما على حق فضلا عن أنه مصدر كل خير ومن حقه أن يفعل أي شيء حفاظا على (مصالحهم ومصالح العامة على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم!!) أي قدر استطاعتهم والضرورات تبيح المحظورات حتى ولو كانت هذه المحظورات قتل آلاف البشر أو تمزيق جعفر بن يحيى نديم الكأس قطعا وأشلاء يجعل الرشيد على كل جسر من جسور بغداد منهن جزءا!! وهو ما أوضحه عندما شرح لنا نموذجا من فلسفة التاريخ الخلدوني فهو يرى أن الرشيد كان رمزا من رموز النقاء والطهارة وأن مجالسته للعلماء الذين ذكرهم ينفي نفيا قاطعا أنه (حفظه الله) كان سكيرا كما أن اعتقاد ابن خلدون بأن الخلفاء العباسيين خلقوا من ماء الذهب وليس من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب يكفي لنفي واقعة زواج العباسة من جعفر بن يحيى مع أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم زوج عمته من المقداد بن الأسود مقررا أن الكفاءة بين المسلمين هي الدين فما هو المانع العقلي من تصديق ما رواه المؤرخون ومن بينهم ابن جرير الطبري عن واقعة زواج العباسة من جعفر بن يحيى مع أنهم كلهم كانوا على دين واحد هو دين الشراب والسكر.
أما الأطرف من هذا أن ابن خلدون في دفاعه عن الرشيد وإدانته للبرامكة وهم شركاؤه في جرائمه يرى أن إطلاق الفضل ليحيى ابن عبد الله الذي حبسه الرشيد ظلما وعدوانا بعد أن أعطاه أوثق العهود هي جريمة كافية تستحق الإعدام وربما ما هو أكثر من الإعدام.
إذا فالذي نخلص إليه أن ابن خلدون كان مؤرخا سلطويا وهو ما يليق بعمله وزيرا في بلاط السلطان.
من أين جاء ابن خلدون بمخترعاته؟؟.
يقول الدكتور محمود إسماعيل أنه جاء بمخترعاته هذه من أخوان الصفا ولكن من أين جاء أخوان الصفا بهذا الكلام عن العمران وغيره؟؟ ونلاحظ أيضا أن ابن خلدون قد روى رسالة طاهر بن الحسين لابنه بنصها وهي أيضا مروية في تاريخ الطبري والمتأمل في ذلك الكتاب يرى بوضوح أنه لا يعدو أن يكون اقتباسا من (عهد الأشتر) وهو العهد الذي كتبه الإمام علي بن أبي طالب عندما ولى مالك الأشتر على مصر ومعلوم أيضا أن طاهر بن الحسين ذو اليمينين وكان من كبار قادة المأمون العباسي العسكريين ومن قام بإقصاء أخيه الأمين عن عرشه في بغداد كان من الشيعة حتى أن الحسن بن سهل وزير المأمون لما أعيته ثورة أبي السرايا هم بتوجيه طاهر إليهم فجاءته تلك الأبيات التي ذكرها أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين
قناع الشك يكشفه اليقين * وأفضل كيدك الرأي الرصين
تثبت قبل ينفذ فيك أمر * يهيج لشره داء دفين
أتندب طاهر لقتال قوم * بنصرتهم وطاعتهم يدين
ويبعث كامنا في الصدر منه * ولا يخفى إذا ظهر المصون
فشأنك واليقين فقد أنارت * معالمه وأظلمت الظنون
ودونك ما نريد بعزم رأى * تدبره ودع ما لا يكون
والذي نعتقده أن طاهر بن الحسين قد اقتبس رسالته من عهد الأشتر ولم يصرح بنسبتها للإمام علي بسبب التقية والخوف وهي الرسالة التي أحدثت ضجة في أوساط الدولة العباسية دفعت المأمون لتعميمها على أركان دولته ولهذا العهد قصة غريبة تكشف علاقة المسلمين عامة بالأمانة العلمية وعلاقتهم بتراث أهل البيت خاصة وقد ذكرها شارح نهج البلاغة عبد الحميد بن أبي الحديد عندما قال: (أن عليا كتب إلى محمد بن أبي بكر رضوان الله عليه عندما كان عاملا من قبله على مصر كتابا وكان محمد ينظر في هذا الكتاب ويتأدب بأدبه فلما ظهر عليه عمرو بن العاص وقتله أخذ كتبه أجمع فبعث بها إلى معاوية فكان معاوية ينظر في هذا الكتاب ويتعجب منه فقال الوليد بن عقبة وهو عند معاوية وقد رأى إعجابه به مر بهذه الأحاديث أن تحرق فقال معاوية مه لا رأي لك فقال الوليد أفمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك تتعلم منها قال معاوية ويحك أتأمرني أن أحرق علما مثل هذا والله ما سمعت بعلم هو أجمع منه ولا أحكم!! فقال الوليد إن كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله فقال لولا أن أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه ثم سكت هنيهة ثم نظر إلى جلسائه فقال إنا لا نقول أن هذه من كتب علي بن أبي طالب ولكن نقول هذه من كتب أبي بكر الصديق كانت عند ابنه محمد فنحن ننظر فيها ونأخذ منها قال فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية حتى ولي عمر بن عبد العزيز فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب عليه السلام و كلامه) ثم قال ابن أبي الحديد (الأليق أن يكون الكتاب الذي كان مع معاوية ينظر فيه ويعجب منه ويفتي به ويقضي بقضاياه وأحكامه هو عهد علي بن أبي طالب إلى الأشتر فإنه نسيج وحده ومنه تعلم الناس الآداب و القضايا والأحكام والسياسة وهذا العهد صار إلى معاوية لما سم الأشتر ومات قبل وصوله إلى مصر فكان ينظر فيه ويعجب منه وحقيق مثله أن يقتنى في خزائن الملوك) شرح نهج البلاغة ج3 ص 28.
والرسالة موجودة بنصها في نهج البلاغة وسنكتفي بإيراد ما كان منها موضعا لاقتباس عبقري الأمة.
هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الاَْشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبْايةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا.
ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاَد قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْل وَجَوْر، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ في مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاَةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ،إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ.
وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَأ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الأمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلاَكَ بِهِمْ.
إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَال.
أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ.
وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِينَ وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ.
وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأمور إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّة وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ.
وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ للإنصاف، وَأَسْأَلَ بالإلحاف وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإعطاء وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ للأعداء، الْعَامَّةُ مِنَ الأمة فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ.
وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ، فإنَّ في النَّاسِ عُيُوباً، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ.
شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ للأشرار قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثام، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الاَْثَمَةِ وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ، أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ، ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيَما يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأوليائه، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ.
وَلاَ يَكُونَنَّ الْـمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لأهْلِ الإحسان فِي الإحسان،تَدْرِيباً لأهْلِ الإساءة عَلَى الإساءة، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَال بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذلِكَ أَمْرٌ يَجَتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ.
وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ، وَمُنَافَثَةَ الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْض، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض: فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ،مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنهَا عُمَّالُ الإنصاف وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ سَهْمَهُ، وَوَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَفَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ(صلى الله عليه وآله)عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً.
فَالْجُنُودُ، بِإِذْنِ اللهِ، حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلاَةِ، وعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الأمن، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ.
ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ فِي جِهَادِ عَدُوِهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيَما أصْلَحهُمْ، وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ.
ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ، لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَيَجْمَعُونَ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الأمور وَعَوَامِّهَا.
وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيَما يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ ممّا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ.
ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ.
وَفِي اللهِ لِكُلّ سَعَةٌ، وَلِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ.
وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وَإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بَسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاَةِ أُمُورِهِمْ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ.
وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صلاَحِهِ وَصلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاََنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ.
وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأرض أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَِنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة
أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً.
فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْب أَوْ بَالَّة، أَوْ إِحَالَةَ أَرْض اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِما تَرْجُو أَنْ يصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ وَتَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلاَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وَتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ، بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ، وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ فِي رِفْقِكَ بِهِمْ، فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الأمور مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأرض مِنْ إعْوَازِ أَهْلِهَا،إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإشراف أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ.
ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَائِدَكَ وأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُودِ صَالِحِ الاَْخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ، فَيَجْتَرِىءَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَف لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاَ، وَلاَ تُقَصِّرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمَّالِكَ عَلَيْكَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوابِ عَنْكَ، وَفِيَما يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنْكَ، وَلاَ يُضعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ، وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ، وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفسِهِ فِي الأمور، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بَقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ.
ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، لَيْسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ والأمانة شَيْءٌ، وَلكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وَلُوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ، فَاعْمِدْ لأحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً، وَأَعْرَفِهِمْ بالأمانة وَجْهاً، فَإِنَّ ذلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لله وَلِمَنْ وَلِيتَ أَمْرَهُ.
وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ، لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا، وَلاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا، وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْب فَتَغَابَيْتَ عَنْه أُلْزِمْتَهُ.
ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وَحَيْثُ لاَ يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَلاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلاَدِكَ.
وَاعْلَمْ ـ مَعَ ذلِكَ ـ أَنَّ فِي كَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّة لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ، فَامْنَعْ مِنَ الاْحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ.
وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْل، وَأَسْعَار لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ وَعَاقِبْ فِي غَيْرِ إِسْرَاف.
ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِين وَالْـمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإسلام فِي كُلِّ بَلَد، فإِنَّ للأقصى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي للأدنى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ لإحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ.
فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لأولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُع، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بَالإعْذَارِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإنصاف مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ.
وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذلِكَ عَلَى الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَام طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ.
وَاجْعلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَواضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ وَتُقعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِع فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله ِ(عليه السلام) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِن: “لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِع”. ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْكَ الضِّيقَ وَالأنَفَ يَبْسُطِ اللهُ عَلَيْكَ بَذلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً، وَامْنَعْ فِي إِجْمَال وَإِعْذَار!
ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا: مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ، وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ عِنْدَ وَرُودِهَا عَلَيْكَ مِمَّا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ.
وَأَمَّا بَعْدَ هذا فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بالأمور، وَالاِْحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دوُنَهُ فَيَصْغُرُ عِندَهُمْ الْكَبِيرُ وَيَعْظَمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأمور وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنَِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ، فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْل كَرِيم تُسْدِيهِ، أَوْ مُبْتَلَىً بِالْمَنعِ، فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ! مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مما لاَ مَؤُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ، مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَة، أَوْ طَلَبِ إِنْصاف فِي مُعَامَلَة.
ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً، فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ، وَقِلَّةُ إِنْصَاف فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأحوال، وَلاَ تُقْطِعَنَّ لأحَد مِنْ حَاشِيتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعةً، وَلاَ يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَة، تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ، فِي شِرْب أَوْ عَمَل مُشْتَرَك، يَحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذلِكَ لَهُمْ دُونَكَ، وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا والآخرة.
وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ خَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ، فَإِنَّ مَغَبَّة ذلِكَ مَحْمُودَةٌ.
وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً، فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَاعْدِلْ عَنكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وإِعْذَاراً تَبْلُغُ فِيه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ.
فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بالأمانة، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ عز وجلّ شَيْءٌ النَّاسُ أَشدُّ عَلَيْهِ اجْتَِماعاً مَعَ تَفْرِيقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشْتِيتِ آرَائِهِمْ مِنَ تَعْظيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَقَدْ لَزِمَ ذلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيَما بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بَعَهْدِكَ وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لاَ يجترئ عَلَى اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ،يَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ فَلاَ إِدْغَالَ وَلاَ مُدَالَسَةَ وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ، وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تَجُوزُ فِيهِ الْعِلَلُ وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ القَوْل بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْر لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيق تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللهِ فِيهِ طَلِبَةٌ لاَ تَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلاَ آخِرَتَكَ.
إِيَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مبتدئ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فِيَما تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامةِ، فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزيِلُهُ وَيَنْقُلُهُ، وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمدِ، لاَِنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ، وَإِنِ ابْتُلِيتَ بخطأ وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ [أَوْ سَيْفُكَ] أَوْ يَدُكَ بِعُقُوبَة، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول حَقَّهُمْ.
وَإِيَّاكَ والإعجاب بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الإطراء فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِـيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْـمُحْسِنِينَ.
وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ أَوِ التَّزَيُّد فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الإحسان وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ، وَالخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ قَالَ اللهُ سبحانه: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ) وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَة عَادِلَة أَوْ سُنَّة فَاضِلَة أَوْ أَثَر عَنْ نَبِيِّنَا (صلى الله عليه وآله) أَوْ فَرِيضَة فِي كِتَابِ اللهِ فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عهْدِي هذَا وَاسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا فَلَنْ يَعْصِمَ مِنَ السُّوءِ وَلاَ يُوَفِّقَ لِلْخَيْرِ إلاَّ اللهُ تَعَالى.
هذا هو القسم الأكبر من تلك الوثيقة التاريخية التي أسست لعلم السياسة والاجتماع والتي جعلت من تلك السلوكيات التزاما أخلاقيا دينيا وليست مكافأة لطبقة أو فئة من الناس تريد أن تحكم أو تتحكم في الناس باسم الدين كونها تزعم أنها الأعرف والأفهم وهذا هو الفارق بين الإمام علي وابن خلدون (إذا جازت المقارنة) فالأول يريد أن يجعل من الدين وسيلة لتحقيق العدل بين الناس والتوازن بين طبقات المجتمع والثاني يريد أن جعل من الدين وسيلة لترويض هذا الصنف من الوحوش الذين عاصرهم ابن خلدون ونصحهم بما يكفل لهم البقاء لأن الله تعالى لم يأمر بأمر أهم عنده من إقامة العدل ولم يبغض شيئا أكثر من بغضه للذين يريدون علوا في الأرض حيث قال عز من قائل (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) ولم يقل سبحانه والعاقبة للظالمين ولا قال للمصلين حتى ولو شهد لهم ابن خلدون.
دكتور أحمد راسم النفيس
31-1-2023