
دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الأسرة والقوامة في الإسلام
دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الأسرة والقوامة في الإسلام
يقول تعالى:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) النساء (34)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (135) النساء
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (8) المائدة
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا * وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) النساء 127-130.
قبل الدخول في صميم البحث عن الأسرة وقوامة الرجل على المرأة نحتاج إلى التعرف على بعض المصطلحات مثل القوامة والنشوز وتحديد معناها.
يقول صاحب لسان العرب:
@قوم: القيامُ: نقيض الجلوس، قام يَقُومُ قَوْماً وقِياماً وقَوْمة وقامةً والقَوْمةُ المرة الواحدة. ورجل قائم من رجال قُوَّمٍ وقُيَّمٍ وقِيَّمٍ وقُيَّامٍ وقِيَّامٍ. ومعنى القِيام العَزْمُ ومنه قوله تعالى: وإنه لما قامَ عبد الله يدعوه؛ أي لما عزم. وقوله تعالى: إذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السموات والأرض؛ أي عزَموا فقالوا، قال: وقد يجيء القيام بمعنى المحافظة والإصلاح؛ ومنه قوله تعالى: الرجال قوّامون على النساء، وقوله تعالى: إلا ما دمت عليه قائماً؛ أي ملازماً محافظاً. ويجيء القيام بمعنى الوقوف والثبات. وعليه فسروا قوله سبحانه: وإذا أَظلم عليهم قاموا؛ قال أهل اللغة والتفسير: قاموا هنا بمعنى وقَفُوا وثبتوا في مكانهم غير متقدّمين ولا متأَخرين، وقوله عزَّ وجل: كم تركوا من جنات وعيون وزُروع ومَقام كَريم.
بالرجوع لكتاب (الغريب في مفردات القرآن) للراغب الأصفهاني: معنى كلمة (نشز):
النشز: المرتفع من الأرض، ونشز فلان: إذا قصد نشزا، ومنه: نشز فلان عن مقره: نبا، وكل ناب ناشز. قال تعالى: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} [المجادلة/11] ويعبر عن الإحياء بالنشز والإنشاز؛ لكونه ارتفاعا بعد اتضاع. قال تعالى: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} [البقرة/259]، وقرئ بضم النون وفتحها وقوله تعالى: {واللآتي تخافون نشوزهن} [النساء/34] ونشوز المرأة: بغضها لزوجها ورفع نفسها عن طاعته، وعينها عنه إلى غيره، وعرق ناشز. أي: ناتئ.
لا شك أن تحديد معنى النشوز يعد أمرا بالغ الأهمية عندما نبحث طبيعة العلاقة بين الزوجين وهي صفة يمكن أن يوصف بها كل من الرجل والمرأة وليست المرأة وحدها كما تردد الأبواق الناطقة باسم الغرب أو من يُسمون أنفسهم بدعاة تحرير المرأة.
العجيب أن التركيز الإعلامي ينصب على المرأة وإباحة ضربها تحت ظروف بعينها يكشف عن جهل أو تجاهل لحقيقة بالغة الأهمية مفادها أن الكلمة تعد وصفا لسلوك أحد الزوجين مع ملاحظة اختلاف الطبيعة التكوينية لكليهما (وليس الذكر والأنثى).
الآية (34) تحدثت عن النساء عامة وفرقت بين المرأة المؤمنة الصالحة ووصفتها بصفات الكرامة (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) مقابل المرأة الناشز معوجة الخلق والسلوك أي أن الأولى تستحق الاحترام والتبجيل والثانية بحاجة للتقويم عبر الوعظ أولا والهجر في المضجع ثانيا وأخيرا عبر الضرب لو بلغت الأمور مبلغا لا ينفع معه شيء مما سبق!.
التعريف القانوني للنشوز هو إعراض المرأة عن زوجها وامتناعها عن تلبية حاجاته المشروعة، أما من الناحية الشرعية فلا بد أن يضاف إليها: رغم أدائه لواجبات القوامة من نفقة وإرشاد وتوجيه.
يذكر الزمخشري في تفسيره: أن الولاية إنما تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة.
قوامة الرجل على المرأة لا تتحقق بالإذلال والقهر وقطعا لا تتحقق بالضرب والظلم والقهر ومن باب أولى تكسير العظام!!.
ليس كل الرجال سواء في العلم والمعرفة والخلق وكذا ليس كل النساء وقد رأينا بأم أعيننا أنواعا مختلفة من السلوك الاجتماعي وكيف أن بعض النساء يقتلن أزواجهن ويقمن بتقطيعهم وتعبئتهم في أكياس وأن الخيانة الزوجية يمكن أن تحدث من الرجل والمرأة وكيف تفشت الإباحية الجنسية والعلاقات خارج الزواج في المجتمعات الغربية!!.
ونظرا لأهمية وخطورة مسألة التصريح للزوج بضرب زوجته فقد تضمنت خطبة الرسول في حجة الوداع نصا خاصا بهذا الشأن (أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ؛ ألا يُوطِئنَ فُرُشَكم غيرَكم، ولا يُدخِلنَ أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتِينَ بفاحشةٍ، فإذا فعلنَ ذلك، فإنَّ الله أذِنَ لكم أن تَهجروهُنَّ في المضاجع، وتَضربوهُنَّ ضربًا غير مُبَرِّحٍ، فإن انتهينَ وأطعنكم، فعليكم رزقهُنَّ وكِسوتهُنَّ بالمعروف، وإنما النساء عوانٍ عندكم – يَعني أسيرات – ولا يَملكنَ لأنفسهِنَّ شيئًا، أخذتموهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجَهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنَّ خيرًا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد).
المعنى واضح وهو أن النشوز هو ارتكاب (جرم) لا يصل حد الكبيرة ويحتاج لوعظ وتأديب ومن المنطقي ألا يكون المستوى الأخلاقي للزوج وضيعا وإلا كيف يقبل الوعظ من فاسق أو مجرم أو معتد أثيم؟!.
يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ.
الذي يضرب امرأته تحت عنوان النشوز عليه أن يهيء دفاعه ومبرراته لاتخاذ هذا الإجراء خاصة وقد حدد القرآن أن ثمة إجراء تال لهذا الإجراء هو التحكيم (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهله) والغاية هو الإصلاح والتوفيق وقطعا ليس نصرة الظالم على المظلوم ولو كان الزوج ظالما فعليه أن يذعن للعقاب الذي سيفرض عليه سواء كان هذا تعويضا ماليا أو اعتذارا رسميا أو حتى جنائيا لو تسبب الضرب في إحداث ضرر بدني للزوجة المظلومة المقهورة… لو ثبت ذلك.
كما أن كلمة (قوامون) وهي صيغة مبالغة تعني اهتمام الزوج ومكابدته من أجل تلبية احتياجات الزوجة المادية والعاطفية واعتبار تلك المهمة شغله الشاغل.
يقول الزمخشري في تفسير الآية:
” قوامون على النساء ” يقومون عليهن آمرين ناهين كما يقوم الولاة على الرعايا. وسموا قواماً لذلك. والضمير في ” بعضهم ” للرجال والنساء جميعاً يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال على بعض وهم النساء. وفيه دليل على أن الولاية إنما تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل والحزم والعزم والقوة والفروسية والرمي وأن منهم الأنبياء والعلماء وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف ”وبما أنفقوا ” وبسبب ما أخرجوا في نكاحهن من أموالهم في المهور والنفقات.
وروي: أن سعد بن أبي الربيع وكان نقيباً من نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير. فلطمها. فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال: لتقتص منه فنزلت فقال صلى الله عليه وسلم: أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير ورفع القصاص.
واختلف في ذلك فقيل لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها. وقيل: لا قصاص إلا في الجرح والقتل. وأما اللطمة ونحوها فلا ” قانتاتٌ ” مطيعات قائمات بما عليهن للأزواج ” حافظاتٌ للغيب ” الغيب خلاف الشهادة. أي حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظهن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة. من الفروج والبيوت والأموال. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ”خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها” وتلا الآية وقيل: ”للغيب” لأسرارهم ” بما حفظ الله ” بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج في كتابه وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام فقال: ”استوصوا بالنساء خيراً” أو بما حفظهن الله وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب أو بما حفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على حفظ الغيب وأوعدهن بالعذاب الشديد على الخيانة. و ما مصدرية. وقرئ بما حفظ الله بالنصب على أن ما موصولة أي حافظات للغيب بالأمر الذي يحفظ حق الله وأمانة الله وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم. وقرأ ابن مسعود: فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن. نشوزها ونشوصها: أن تعصي زوجها ولا تطمئن إليه وأصله الانزعاج ” في المضاجع ” في المراقد. أي لا تداخلوهن تحت اللحف أو هي كناية عن الجماع. وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع وقيل: في المضاجع: في بيوتهن التي يبتن فيها. أي لا تبايتوهن. وقرئ: في المضجع وفي المضطجع. وذلك لتعرف أحوالهن وتحقق أمرهن في النشوز أمر بوعظهن أولاً ثم هجرانهن في المضاجع ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران.
وقالوا: يجب أن يكون ضرباً غير مبرح لا يجرحها ولا يكسر لها عظماً ويجتنب الوجه.
” فلا تبغوا عليهن سبيلاً ” فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ والتجني وتوبوا عليهن واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن بعد رجوعهن إلى الطاعة والانقياد وترك النشوز ” إن الله كان علياً كبيراً ” فاحذروه واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم. ويروى: أن أبا مسعود الأنصاري رفع سوطه ليضرب غلاماً له فبصر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاح به: ” أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه ” فرمى بالسوط وأعتق الغلام. أو إن الله كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع.
يقول الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب:
والسبب الثاني: لحصول القوامة: قوله تعالى: {وبما أنفقوا من أموالهم} يعني الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها المهر وينفق عليها، ثم انه تعالى قسم النساء قسمين، فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، وفيه مسائل:
قوله: {قانتات حافظات للغيب} فيه وجهان: الأول: قانتات، أي مطيعات لله، قائمات بحقوق الزوج، وقدم قضاء حق الله ثم أتبع ذلك بقضاء حق الزوج.
الثاني: أن حال المرأة إما أن يعتبر عند حضور الزوج أو عند غيبته، أما حالها عند حضور الزوج فقد وصفها الله بأنها قانتة، وأصل القنوت دوام الطاعة، فالمعنى أنهن قيمات بحقوق أزواجهن، وظاهر هذا إخبار، إلا أن المراد منه الأمر بالطاعة.
واعلم أن المرأة لا تكون صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها، لأن الله تعالى قال: {فالصالحات قانتات} والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق، فهذا يقتضي أن كل امرأة تكون صالحة، فهي لا بد وأن تكون قانتة مطيعة.
قال الواحدي رحمه الله: لفظ القنوت يفيد الطاعة، وهو عام في طاعة الله وطاعة الأزواج، وأما حال المرأة عند غيبة الزوج فقد وصفها الله تعالى بقوله: {حفظات للغيب} واعلم أن الغيب خلاف الشهادة، والمعنى كونهن حافظات بمواجب الغيب، وذلك من وجوه: أحدها: أنها تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها، ولئلا يلتحق به الولد المتكون من نطفة غيره، وثانيها: حفظ ماله عن الضياع، وثالثها: حفظ منزله عما لا ينبغي، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : “خير النساء إن نظرت اليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها”، وتلا هذه الآية.
أما قوله: {بما حفظ الله} فيه وجهان: الأول: بمعنى الذي، والعائد اليه محذوف، والتقدير: بما حفظه الله لهن، والمعنى أن عليهن ان يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن، حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله: {بما حفظ الله} يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي هذا في مقابلة ذاك.
والوجه الثاني: أن تكون “ما” مصدرية، والتقدير: بحفظ الله، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أنهن حافظات للغيب بما حفظ الله إياهن، أي لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله، فيكون هذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل.
والثاني: أن المعنى: هو أن المرأة إنما تكون حافظة للغيب بسبب حفظهن الله أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره، فان المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكاليف الله وتجتهد في حفظ أوامره لما أطاعت زوجها، وهذا الوجه يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصالحات فقال: (واللاتى تخافون نشوزهن}.
واعلم أن الخوف عبارة عن حال يحصل في القلب عند ظن حدوث أمر مكروه في المستقبل.
قال الشافعي: {واللاتى تخافون نشوزهن} النشوز قد يكون قولا، وقد يكون فعلا، فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها، وتخضع له بالقول إذا خاطبها ثم تغيرت، والفعل مثل أن كانت تقوم اليه إذا دخل عليها، أو كانت تسارع إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها، ثم إنها تغيرت عن كل ذلك، فهذه أمارات دالة على نشوزها وعصيانها، فحينئذ ظن نشوزها ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز.
وأما النشوز فهو معصية الزوج والترفع عليه بالخلاف، وأصله من قولهم نشز الشيء إذا ارتفع، ومنه يقال للأرض المرتفعة: ونشز ونشر.
ثم قال تعالى: {فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي: أما الوعظ فانه يقول لها: اتقي الله فان لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو هذا، ولا يضربها في هذه الحالة لجواز أن يكون لها في ذلك كفاية، فان أصرت على ذلك النشوز فعند ذلك يهجرها في المضجع وفي ضمنه امتناعه من كلامها
وقال الشافعي: ولا يزيد في هجره الكلام ثلاثا، وأيضا فاذا هجرها في المضجع فان كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتترك النشوز، وان كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران، فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها، وفيهم من حمل ذلك على الهجران في المباشرة، لأن إضافة ذلك إلى المضاجع يفيد ذلك، ثم عند هذه الهجرة ان بقيت على النشوز ضربها.
قال الشافعي رضي الله عنه: والضرب مباح وتركه أفضل.
روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: كنا معاشر قريش تملك رجالنا نساءهم، فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم تملك رجالهم، فاختلطت نساؤنا بنسائهم فذئرن على أزواجهن، فأذن في ضربهن فطاف بحجر نساء النبي صلى الله عليه وسلم جمع من النسوان كلهن يشكون أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم : “لقد أطاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكون أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم”
ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا.
قال الشافعي رضي الله عنه: فدل هذا الحديث على أن الأولى ترك الضرب، فأما إذا ضربها وجب في الضرب ألا يكون مفضيا إلى الهلاك ألبتة، بأن يكون مفرقا على بدنها، ولا يوالي بها في موضع واحد ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، وأن يكون دون الأربعين. ومن أصحابنا من قال: لا يبلغ به عشرين لأنه حد كامل في حق العبد، ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده، ولا يضربها بالسياط ولا بالعصا، وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه.
وأقول: الذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الاخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الاقدام على الطريق الأشق والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلف أصحابنا قال بعضهم: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب، فان ظاهر اللفظ وان دل على الجمع إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: يعظها بلسانه، فان انتهت فلا سبيل له عليها، فان أبت هجر مضجعها، فان أبت ضربها، فان لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين.
وقال آخرون: هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز، أما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل.
وقال بعض أصحابنا: تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها، وهل له أن يهجرها؟ فيه احتمال، وله عند إبداء النشوز أن يعظها أو يهجرها، أو يضربها.
ثم قال تعالى: {فإن أطعنكم} أي إذا رجعن عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب {فلا تبغوا عليهن سبيلا} أي لا تجعلوا الضرب والهجران طريقا على سبيل التعنت والايذاء {إن الله كان عليا كبيرا} وعلوه لا بعلو الجهة، وكبره لا بكبر الجثة، بل هو علي كبير لكمال قدرته ونفاذ مشيئته في كل الممكنات.
وذكر هاتين الصفتين في هذا الموضع في غاية الحسن، وبيانه من وجوه: الأول: أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النسوان، والمعنى أنهن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله سبحانه علي قاهر كبير قادر ينتصف لهن منكم ويستوفي حقهن منكم، فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يدا منهن، وأكبر درجة منهن. الثاني: لا تبغوا عليهن إذا أطعنكم لعلو أيديكم. فان الله أعلى منكم وأكبر من كل شيء، وهو متعال عن أن يكلف إلا بالحق.
الثالث: أنه تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون، فكذلك لا تكلفوهن محبتكم، فانهن لا يقدرن على ذلك. الرابع: أنه مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، بل يغفر له، فاذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها وتتركوا معاقبتها.الخامس: أنه تعالى مع علوه وكبريائه اكتفى من العبد بالظواهر ولم يهتك السرائر، فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة، وأن لا تقعوا في التفتيش عما في قلبها وضميرها من الحب والبغض.
أما القمي فيقول في تفسيره:
قوله (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم) يعنى فرض الله على الرجال ان ينفقوا على النساء ثم مدح الله النساء فقال : ( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) يعني تخفظ نفسها إذا غاب زوجها عنها ، وفي رواية ابي الجارود عن ابي جعفر عليه السلام في قوله “قانتات” يقول مطيعات وقوله (واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فان اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) وذلك ان نشزت المرأة عن فراش زوجها قال زوجها اتقى الله وارجعي إلى فراشك، فهذه الموعظة ، فان اطاعته فسبيل ذلك وإلا سبها وهو الهجر فان رجعت إلى فراشها فذلك وإلا ضربها ضربا غير مبرح فان اطاعته وضاجعته يقول الله “فان اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا” يقول لا تكلفوهن الحب فانما جعل الموعظة والسب والضرب لهن في المضجع (ان الله كان عليا كبيرا).
وقوله (وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من اهله وحكما من اهلها) فبما حكم به الحكمان فهو جائز يقول الله ( ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما بعني الحكمين فاذا كانا عدلين دخل حَكم المرأة فيقول اخبريني ما في نفسك، فاني لا احب ان اقطع شيئا دونك ، فان كانت هي الناشزة قالت اعطوه من مالي ما شاء وفرق بيني وبينه ، وان لم تكن ناشزة قالت انشدك الله ان لا تفرق بيني وبينه ، ولكن استزد لي في النفقة فانه مسيئ ويخلو حكم الرجل يجئ إلى الرجل فيقول حدثني بما في نفسك فاني لا احب ان اقطع شيئا دونك، فان كان هو الناشز قال خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها فلا حاجة لي فيها، وان لم يكن ناشزا قال انشدك الله ان لا تفرق بيني وبينها فانها احب الناس، الي فارضها من مالي بما شئت، ثم يلتقي الحكمان وقد علم كل واحد منهما ما افضى به اليه صاحبه فاخذ كل واحد منهما على صاحبه عهد الله وميثاقه لتصدقني ولاصدقنك ، وذلك حين يريد الله ان يوفق بينهما ) فاذا فعلا وحدث كل واحد منهم صاحبه بما افضى اليه عرفا من الناشز فان كانت المرأة هي الناشزة قالا انت عدوة الله الناشزة العاصية لزوجك ليس لك عليه نفقة ولا كرامة لك وهو احق ان يبغضك ابدا حتى ترجعي إلى امر الله ، وان كان الرجل هو الناشز قالا له انت عدو الله وانت العاصي لامر الله المبغض لامر الله (لامرأثك) فعليك نفقتها ولا تدخل لها بيتا ولا ترى لها وجها ابدا حتى ترجع إلى امر الله وكتابه .
قال وأتى علي بن ابي طالب عليه السلام رجل وامرأته علي هذه الحال فبعث حكما من اهله وحكما من اهلها وقال للحكمين هل تدريان ما تحكمان؟ ان شئتما فرقتما وان شئتما جمعتما، فقال الزوج لا ارضى بحكم فرقة ولا اطلقها، فأوجب عليه نفقتها ومنعه ان يدخل عليها ، وان مات على ذلك الحال الزوج ورثته، وان ماتت لم يرثها إذا رضيت منه بحكم الحكمين وكره الزوج، فان رضى الزوج وكرهت المرأة انزلت بهذه المنزلة ، ان كرهت لم يكن لها عليه نفقة وان مات لم ترثه وان ماتت ورثها حتى ترجع إلى حكم الحكمين .
خلاصة القول
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء 1.
(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الروم 21.
اهتم القرآن الكريم كثيرا بتأسيس العلاقة الروحية والعاطفية بين الرجل والمرأة وأنها ليست علاقة جسدية فقط مثلما يحدث في الأمم المنحلة أخلاقيا والمؤهلة للزوال.
ورغم أهمية علاقة المعاشرة بين الذكر والأنثى تلبية للرغبة الجنسية وحفظا للنوع البشري فمما لا شك فيه أن الآيتين السابقتين تؤكدان على المساواة الروحية بين الرجل والمرأة وقياما بالوظيفة الكونية للإنسان، كل بني الإنسان.
عندما نقرأ القرآن الكريم نرى تكريما واضحا للمرأة يتجاوز تلك الإشكالية المثارة حول (اضربوهن) وكأنها الآية الوحيدة التي حددت طريقة التعامل مع المرأة التي قد تكون أما أو أختا أو ابنة حيث لم يوص القرآن بضرب أي من هؤلاء بل أوصى ببر الوالدين (وبالوالدين إحسانا) واوصى بصلة الرحم على العموم (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
لسنا إذا ممن يتبرءون من جريمة ارتكبوها ولا من عار لحق بهم فديننا دين الرحمة والحفاظ على كل ما هو قيم ورفيع.
الغرب الذي جعل أكبر اهتمامه بالنصف الأسفل من الإنسان رجلا كان أم امرأة بينما حرص ديننا على رعاية هذا الكائن بصورة متكاملة وأكد على رعاية الكيان الإنساني بدءا من مكوناته الفردية والأسرية الصغرى والكبرى وصولا لرعاية الكيان المجتمعي كله.
ليس غريبا أن تنص الآية 36 من سورة النساء التي وردت عقب الحديث عن الإصلاح بين الزوجين على رعاية الإطار الاجتماعي الأوسع الذي يحتضن الزوجين الذكر والأنثى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا). (36)
لسنا أمة همجية متوحشة بل أمة راقية متحضرة حري بها أن تتبوأ مكانها في صدارة العالم.
والله المستعان
دكتور أحمد راسم النفيس
المنصورة مصر
12/01/2023