دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: هل حقا يمكن التعويل على معارضة يهودية للصهيونية؟؟
دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: هل حقا يمكن التعويل على معارضة يهودية للصهيونية؟؟
رغم أن الحديث عن مأساة فلسطين والكارثة التي ألحقها اليهود بنا تعد جزءا رئيسا من طعامنا السياسي اليومي إلا أن ثمة تباين صارخ بين الكتاب والمفكرين حول تشخيص القضية وما يتعين أن يقال وما لا يقال!!.
منذ أن بدأت معركة طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر عام 2023 بدا واضحا أنها حرب العالم وليست حرب الأطراف المنخرطة فيها وأن البعد العقائدي غائر في أعماق أطراف الصراع أكثر من انغماسه في لحمهم!!.
البعد العقائدي ممتد لآلاف السنين ودعك من زخارف القول ومصطلحات تقطيع الوقت عن اليمين المتطرف واليسار المتسامح والثورة الرأسمالية وتلك البروليتارية التي أدمن تعاطيها مثقفو المحافل الماركسية الماسونية وسائر محدودي العقل والنفع والجدوى الذين حط بهم الرحال بجوار حائط المقاومة بدلا من البطالة والضياع!!.
المعضلة اليهودية جزء قديم من تاريخنا غفل عنه الغافلون أو المغفلون ولم يحظ بما يكفي من الاهتمام رغم تواجدهم دائما وسط الشقوق وخلف الكواليس وتبدو تلك الغفلة راجعة لحالة التضخم الذاتي التي يعاني منها منظرو العالم الإسلامي الذين اعتادوا أن ينظروا لأنفسهم باعتبارهم قوة كبرى تلعب مع نظرائها ولا تهتم بتلك القوى الهامشية اليهودية إلى أن فوجئ القوم ذات صباح بقيام كيان يهودي في قلب العالم الإسلامي تماما وعندها بدأ القوم في البحث عن تفسير لهذه الفاجعة حيث لم يكن جاهزا وقتها للتصدي إلا اليساريين والقوميين رافعي شعار أمة واحدة ذات رسالة خالدة!!.
التيار القومي وأخوه اليساري وابن عمه الإخوانجي قدموا لنا تفسيرات سطحية لهذا الحدث الجلل باعتبارهم الأعلم والأفهم بما يتوافق مع رغبة النظام الحاكمة الراغبة في تغييب الإسلام من ساحة المواجهة ظنا منهم أن رفع راية الإسلام لن يفيد القضية التي يتعين علينا أن نتعاطى معها باعتبارها قضية وطن وأرض محتلة وقرارات أممية وقانون دولي وهو ما استغرق الفترة التي أعقبت قيام الكيان حتى بروز المقاومة الإسلامية في لبنان ثم في فلسطين نفسها.
مؤخرا صرح وزير الخارجية المصري أن حركة حماس (خارج التيار السائد) ويبدو أنه يعتقد أن الطبقة الحاكمة التي أفرزتها حكومات الأمر الواقع والتي لم تقدم لنا إلا كامب ديفيد وأوسلو أصبحت ذلك الشيء السائد وأنها باقية وتتمدد مثلها مثل داعش فخر الفكر الوهابي!!.
من يدرسون التيارات الدينية عليهم أن ينتبهوا إلى أن هناك عدة نسخ من كل معتقد بعدد المنتمين وأحيانا بعدد الزعامات وليس فقط بعدد التأويلات المتوفرة من كل دين ومذهب.
في عالمنا الإسلامي يجري التعامل مع قضايا الفكر والاعتقاد جملة وليس تفصيلا حيث جرى تقسيم الأمة بضعة وسبعين قسما وجرى توزيع الأقوال عليهم بغض النظر عن كم التطابق أو التناقض بين المنسوبين للفرقة الواحدة!!.
الأمر ذاته ينطبق على اليهود الذين جرى تدليلهم عبر منحهم عنوان الصهيونية التي هي ليست دينا بل معتقد سياسي وبذلك أثبتنا لأنفسنا وهو المهم أننا أناس متحضرون لا نعرف التعصب الديني بل ونستحق مقعدا دائما في مجلس حقوق الإنسان رغم أن الحيوانات تحظى بمعاملة أفضل من تلك التي نحظى بها!!.
لم يكتف إمعات الفكر العرب بإسقاط وصف اليهودي عن الكيان الغاصب والاكتفاء بوصفه بالصهيوني بل أمعنوا في غيهم وضلالهم عندما أذعنوا للصورة الذهنية التي رسمها اليهود لأنفسهم عندما قسموا أنفسهم ليمين متطرف شرير ويسار خير يدافع عن حقوق الفقراء والمعدمين ولو كانوا عربا أو مسلمين ويمكن التفاوض معه ونيل بعض المكتسبات وهي خدعة تبين أنها ناجحة جدا جدا للغاية!!!.
العلاقة بين اليهود والآخرين
من يطالع تاريخ اليهود يرى بوضوح جماعة مشاكسة متمردة ليس فقط على أتباع المسيحية والإسلام بل على كل من لا ينصاع لهم ونجد أنهم يعيشون حالة تحريض عدواني مستمر ضد كل من لا يرضخ لإرادة تلك المجموعة الشيطانية الصغيرة التي تدبر أمورهم حتى ولو كان منهم.
هم ليسوا متفقين فيما بينهم (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) سورة الحشر 14.
دائما كان بينهم معتدلون ومتطرفون يأخذونهم أخذا نحو الفناء!!.
في واقعتي بني النضير وبني قريظة كان هناك يهود متبرمون من نقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكونوا راغبين في الذهاب نحو تلك النهاية البائسة التي آلت إليها أمورهم.
يروي ابن الأثير في تاريخه الكامل:
ذكر إجلاء بني النضير
وكان سبب ذلك أن عامر بن الطفيل أرسل إلى النبي يطلب دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية وقد ذكرنا ذلك فخرج النبي إلى بني النضير يستعينهم فيها ومعه جماعة من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي فقالوا نعم نعينك على ما أحببت ثم خلا بعضهم ببعض وتآمروا على قتله وهو جالس إلى جنب جدار فقالوا من يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله ويريحنا منه فانتدب له عمرو بن جحاش فنهاهم عن ذلك سلام بن مشكم وقال هو يعلم فلم يقبلوا منه وصعد عمرو بن جحاش فأتى الخبر من السماء إلى رسول الله بما عزموا عليه فقام وقال لأصحابه لا تبرحوا حتى آتيكم وخرج راجعا إلى المدينة فلما أبطأ قام أصحابه في طلبه فأخبرهم الخبر وأمر المسلمين بحربهم ونزل بهم فتحصنوا منه في الحصون فقطع النخل وأحرق وأرسل إليهم عبد الله بن أبي وجماعة معه أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا النبي أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح فأجابهم إلى ذلك فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام فكان ممن سار إلى خيبر كنانة بن الربيع وحيي بن أخطب وكان فيهم يومئذ أم عمر وصاحبة عروة بن الورد التي ابتاعوا منه وكان غفارية فكانت أموال النضير لرسول الله وحده يضعها حيث شاء فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما ولم يسلم من بني النضير إلا يامين بن عمير بن كعب وهو ابن عم عمرو بن جحاش[1].
أما واقعة بني قريظة والرواية في الكامل ابن الأثير فكان هناك معتدلون لم يرحبوا بالخطة الفاشلة عندما عرضت عليهم بادئ الأمر لكنهم رضخوا في النهاية وشاركوا مشاركة كاملة في ارتكاب الجريمة.
وخرج حيي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد سيد قريظة وكان قد وادع رسول الله على قومه فأغلق كعب حصنه ولم يأذن له وقال إنك امرؤ مشؤوم وقد عاهدت محمدا ولم أر منه إلا الوفاء قال حيي يا كعب قد جئتك بعز الدهر وببحر طام جئتك بقريش وقادتها وسادتها وغطفان بقادتها وقد عاهدوني أنهم لا يبرحون حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه قال كعب جئتني بذل الدهر وبجهام قد هراق ماءه يرعد ويبرق وليس فيه شيء ويحك يا حيي دعني ومحمدا ولم يزل به يفتله في الذروة والغارب حتى حمله على الغدر بالنبي ففعل ونكث العهد وعاهده حيي إن عادت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ونجم النفاق من بعض المنافقين وأقام رسول الله والمشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل[2].
ليس ثمة جديد في تصنيف اليهود المعاصرين إلى يسار ويمين وشمال وجنوب ومعتدلين ومتطرفين وغيرها من الأسماء والتصنيفات التي تتكرر الآن على مسامعنا ناهيك عن أزعومة التمييز بين الصهيونية التي نعاديها واليهودية التي لا نعاديها!!.
عندما بدأت الهجرة اليهودية في التوافد على مصر بداية القرن العشرين حدث تباين بين اليهود المستقرين في مصر منذ زمن بينما جاء هؤلاء من الشرق والغرب ومعهم مشروع الدولة اليهودية أما (اليهود المصريون) فكانوا يعيشون حياة مستقرة وما لبث هؤلاء وهؤلاء أن التحقوا بمشروع الكيان حيث أصبح الآن وجود اليهود منعدما في مصر.
ويقول دافيد أن اليهود المحليين عاملونا بعطف لكن يهوديتنا مشكوك فيها الدين، الوطنية ، الجنسية، أوجدت الفجوة بيننا هذا شيئ مذهل وفى حفل شاي فى منزل رئيس الطائفة ذكر عضو البرلمان جوزيف بتشوتو أن أبناءنا في المدارس يتعلمون فى روح حره وأن التلميذ لا يأخذ التعليمات على أسس المشروع اليهودى للشعب المختار» ويضيف إذا كانت الأجيال الشابه لاتتأثر بهذه الفكرة فستفقد اليهودية محتواها وانتقلوا لمناقشة اللغة العبرية عامة بوجراتشوف ذكر أولادنا يجيدون جميع لغات العالم ولكن هناك لغة واحدة لايجيدونها لغتنا ، وهو يرى أن الأرمن أفضل منهم لأن لديهم ولاء للغتهم ، يقول يولدفيتز عن طائفة اليهود في الاسكندرية أنه ما زال شاكرا لذكرى تعاملهم معه ، وأن ۹۹% منهم يهود طيبون ، وخمسة فقط منهم يفهمون أهداف الصهيونية هؤلاء الخمسة هم سيمون مانى ، البارونة جوليت دى منشا وزوجها البارون فيلكس دی منشاد ،شنسنجر، موسى مسكا ومن طائفة الاسكندرية الحاخام ابراهام ابنجرير الكاتب والمدرس والحاخام بن زيون تراجان مواطن فلسطيني ومن رؤساء الطائفة ادجار سوارس يستطيع ولايريد. في حين أن نائب الرئيس جوزيف بتشوتوبك على عكس الأول، الثاني يريد ولا يستطيع.
تكونت رئاسة لجنة المدارس اليهودية من ادجار سوارس ۱۹۰۰-۱۹۱۱ وبتشوتوبك ١٩٢٤ وأعضاء اللجنة دوين جورود. اسماليوم وسلفاتور وسليماو دافيد ساخس بالنسبة لمدارس اليهود اللاجئين جاك موصيرى ويمثل الأمريكيين ص . س لاندو ويمثل مؤسسات اليهود الانجليزية الحاخام الأكبر ديلا برجولا، ج. دانون .
كانت هناك فجوة بين اليهود المصريين واليهود الصهاينة في فلسطين الذين لجؤا لمصر ولم يجدوا تفهما شاملا للحركة الصهيونية في البداية على المستوى العام كما توقعوا وإن وجدوا تأييدا من العديد من أثرياء الطائفة ، ولقد وجدوا عونا في ضيافة الحكومة المصرية والسلطان حسين كامل ولقد ثارت مشكلة بعد عزله فنشرت شائعات عن شرائه أراضي فى المستوطنات ، ولقد هاجم يهود فلسطين اليهود المصريين ووصفوهم بأنهم خاملين ومحافظين ووفقا لمركزهم الاقتصادى يمكن أن يساعدوا يهود العالم خاصة يهود فلسطين وذكروا أن اليهود استمروا فى تقاليدهم السابقة وأن كل الجهود فى فلسطين لاحياء اللغة العبرية والأدب العبرى وصلت إلى مسامعهم ولكن ليس إلى قلوبهم لأن كل شئ تم في فلسطين منذ ٤٠ عاما لم يصل إليهم ، هي و فكرة الإصلاح السائدة في أوربا والتي ارتفعت من كتاب الصلوات والاشارة إلى الأمل فى الرجوع إلى فلسطين والأرض المقدسة لاسرائيل وأن اليهود المصريين أبعد عن أى نموذج ويقول لماذا لم يستطع اليهود اللاجئين فى تغيير اليهود المصريين أولا: أن أكثر المؤثرين من اللاجئين لم يبقوا فى مصر ثانيا أن اللاجئين لهم وضع الضيوف ويهود مصر حماتهم، كذلك فشل اللاجئون في المدارس المحلية .
وأن اليهود المحليين استعملوا الدعم المالى للضغط على المدارس ليطابق التعليم النموذج الذي يريدونه ، ويبدى يولدفيتز غضبه من اليهود المحليين وأن ظهور اللاجئين أدى إلى تحريك يهود مصر الجامدين ولقد عاد أغلب اليهود إلى مستعمراتهم في فلسطين ۱۹۱۸ بعد الحرب وبعضهم ذهب لأوربا ، وفقا لما ورد من شهود هذه الفترة أن المهاجرين بذلوا جهدا لنشر الفكر الصهيوني بين يهود مصر وكسر الجمود على حد قولهم وجعلهم يمدون الصهيونية في فلسطين بدعمهم المادى والمعنوى.
أما عن موقف ناحوم أفندى رئيس الطائفة اليهودية في مصر فرغم ميله إلى اقامة الوطن القومى فإنه كان حريصا على وضع اليهود في مصر وكان يدرك أن انتشار الفكر الصهيونى وما يمثله من مخالفة للتيارات الشعبية التى بدأت تنبع في مصر سيؤثر بالسلب على وضع اليهود وهو نفس موقف قطاوى باشا فلقد حاول أن يوازن بين الأمور وبين تأييده للموقف اليهودى فيما ذكره هيكل من ذهابه للملك فاروق وما ذكره أن المسلمين والمسيحيين تركوا القدس فقال له أن المسيحيين تركوا القدس إلى روما والمسلمين تركوها لمكة وأن اليهود وحدهم بكوا عليها[3].
ليس هناك إذا مشروع صهيوني ذو جذور منفصلة عن اليهودية والأمر لا يعدو كونه مجرد إطار سياسي وشكل خارجي جرى تركيبه على بنية عقائدية أساسية وكل ما يقال غير ذلك فهو غش ودجل وخداع!!.
المعضلة التي عانى منها ناحوم أفندي وقطاوي باشا وغيرهم من كبار المتمولين اليهود الذين امتلكوا ثروات زراعية وصناعية هائلة وأسسوا الصحف هي كيف يمكن الحفاظ على هذه الثروات في حين أن مسعاهم النهائي هو إقامة دولة يهودية في فلسطين.
ربما كان عزاؤهم الأكبر أنهم سيعودون للسيطرة على كل هذه الأشياء ضمن مملكة المسيح اليهودي المخلص –تلك أمانيهم- غدا أو بعد غد!!.
اليهود والشيوعيون
الإفراط في حسن الظن بالآخرين هو أحد أخطر ثغرات العقل الإسلامي نسبة للمسلمين وليس نسبة للإسلام.
أحد المساحات التي استحوذ عليها المشروع اليهودي وتمكن من خلالها من تحقيق اختراقات واسعة وعميقة للعقل الإسلامي، التيار الماركسي وحزبه الشيوعي المصري ومنتجاته الضارة جدا ومن ضمنها عبد الوهاب المسيري ومحمد عمارة وكلاهما أنهى حياته في حضن الإخوان وآل سعود.
المسيري أنهى حياته بنظرية (الصهيونية منتج غربي واليهودية مجرد غلاف زخرفي تبريري)، أما عمارة فكان رأس الحربة في تكفير الشيعة في مصر ولم تنفع معه زيارات بعض المسئولين الإيرانيين له ولو لتخفيف لهجته!!.
المفكر الماركسي اليهودي الذي رفع شعارات اليسار طرد من مصر في العهد الملكي لكنه عاد إليها في العصر الجمهوري انطلاقا من باريس عاصمة النور وهو الذي كان يدير مفاوضات العار بين ناصر وياسر عرفات واليهود والتي انتهت باتفاقات أوسلو.
خالد محيي الدين وهنري كورييل
معلوم أن جمال عبد الناصر قام بنفي خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة إلى سويسرا عام 1954.
في تلك الأثناء تلقى خالد محيي الدين رسالة من أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المصري (جديتو) اليهودي هنري كورييل الذي كان قد أبعد من مصر عام 1950.
لم يكن هؤلاء اليهود مصريي الجنسية بل كان أغلبهم مهاجرين من أوروبا ورفض أغلبهم تقديم طلب الحصول عليها.
كانت الرسالة (كورييل يريد أن يراك) فالتقيته في قرية على الحدود الفرنسية السويسرية ومعه الصحفي الفرنسي روجيه فايان.
بدأ كورييل حديثه عن واجبي إزاء الوطن وإزاء الثورة التي أسهمت في صنعها وقال أن مسافة الخلاف بدأت تضيق بينك وبين عبد الناصر.
لقد اختلفت بسبب العلاقة مع الأمريكان وبسبب الديموقراطية، والآن يخوض عبد الناصر معركة شديدة ضد الاستعمار وضد الأمريكان، ليصبح جزءا من المعسكر المعادي للاستعمار[4].
نصحني كورييل أن أبعث رسالة إلى عبد الناصر أوجه فيها تحيتي وتأييدي على مواقفه هذه وقال بصراحة هذه الرسالة يجب أن تكون مقدمة لرسالة أخرى تطلب فيها أن تعود إلى مصر.
أبديت ترددي وتحدثت عن الكرامة والمبادئ والديموقراطية المفتقدة، واستمر كورييل يجادلني بهدوء وصبر وأكد أن المبادئ تتحقق بتحقق مصلحة الوطن والشعب ومصلحة الوطن والشعب أن تكون في مصر وليس في جنيف وأن تكون إلى جانب عبد الناصر تشد من أزره وتحمسه وتسانده في اتجاهه الجديد، وأن تعزز هذا الاتجاه في وجه المعاندين، وأخيرا أبديت اقتناعي.
وأرسلت رسالتي الأولى لعبد الناصر وفي تلك الأثناء وصلني خبر أن قرارا صدر بإحالتي على المعاش بذات رتبتي أي رتبة الصاغ فاتصلت بعبد الحكيم عامر الذي استقبلني ضاحكا وقال: علشان المعاش!! يا سيدي كانت غلطة واتصلحت وتقرر أن تحصل على رتبة أميرالاي أي فوق رتبتك بأربع رتب[5].
مرة أخرى اتصل بي كورييل ومرة أخرى نلتقي فقال: أعتقد أن الوقت ملائم لتوجيه رسالة لعبد الناصر تبلغه برغبتك في العودة ومن جديد بدأ يدلي بحججه ما أقنعني بتوجيه رسالة ثانية.
مرة أخرى نجح في إقناعي فأرسلت رسالة ثانية لعبد الناصر طالبا العودة إلى مصر[6].
عدت إلى مصر يوم 4 ديسمبر عام 1955.
قابلت عبد الناصر بعدها وسألني مشاريعك إيه يا خالد؟ قلت أعود لجنيف وأحضر ملابسي وأشيائي وأرجع فقال: عايزك تشتري لي شوية كتب عن الاشتراكية بمدارسها المختلفة فسألت كيف سأدخلها من المطار قال سيستقبلك لطفي واكد ويرتب الأمر.
اقترح عبد الناصر علي إصدار صحيفة يسارية مسائية مشترطا أن تكون يسارية معتدلة وعندما سألته لماذا مسائية رد قائلا كي تكون محدودة الانتشار والتأثير[7].
سؤال جوهري ومهم عن دور (مجموعة باريس) اليهود الشيوعيين التي ضمت هنري كورييل اليهودي المصري وعما إذا كان الدور الذي لعبوه كان انطلاقا من ماركسيتهم أم من يهوديتهم؟!.
ماركسية تحت التحكم!!
لم يكن استعادة الرفيق خالد محيي الدين إلى مصر ليكون إلى جوار جمال عبد الناصر تعبيرا عن رغبة في الانفتاح على الأحزاب الشيوعية وإفساح المجال لها بل رغبة في منح نظامه مسحة يسارية يتقرب بها إلى المعسكر الشرقي.
عاشت الأحزاب الشيوعية المصرية في الخمسينات وأوائل الستينات تتنقل بين المعتقلات وتعرض الشيوعيون لأسوأ أنواع التعذيب وسقط لهم ضحايا جراء التعذيب ومن أشهرهم شهدي عطية الشافعي الذي سقط ميتا تحت الضرب المبرح.
كان أسلوب كسر الإرادة ثم الإخضاع هو الأسلوب المفضل لجمال عبد الناصر وقد مارس هذا مع عدد من الصحفيين من بينهم الكاتب الصحفي والروائي إحسان عبد القدوس وصولا لتطويعهم.
كما أن الكثير من هؤلاء الشيوعيين عملوا بعد ذلك ضمن المنظومة السياسية للزعيم سواء في الاتحاد الاشتراكي أو في التنظيم الطليعي.
لم يكن الأمر قاصرا على الشيوعيين فقد شمل أيضا بعض الإخوان المسلمين الذين خدموا في مواقع وزارية مثل الشيخ أحمد حسن الباقوري والدكتور عبد العزيز كامل.
الدور الذي لعبه اليهود المصريون في تأسيس الشيوعية المصرية
لا بد من تسجيل ملاحظة هامة وهي أن أغلب اليهود المتمصرين كانوا من يهود أوروبا الذين أقاموا بها ولم يسع أغلبهم للحصول على الجنسية المصرية إذ أن المزايا التي ينمتعون بها ستختفي وتتلاشى حال حصولهم على الجنسية المصري ومن بين هؤلاء كان هنري كورييل.
يستعرض الدكتور رؤوف عباس بعض أوراق هنري كورييل:
يتبنى كورييل مواقف تختلف عن قناعاته الشخصية وقناعات مجموعة روما” يتكرر هذا في موقفه من تأميم قناة السويس، الذى ينتقد هنرى أسلوب تنفيذه ولكنه يتبنى الدفاع عنه علناً فى الأوساط السياسية والدولية، ولا يمكن أن نفسر ذلك إلا فى ضوء حرص “المجموعة” على إبقاء الجسور ممتدة بينها وبين الحركة الشيوعية المصرية، ولعلها كانت تعتقد بإمكانية استخدام الحركة الشيوعية المصرية كنقطة إرتكاز لحوار مصرى–إسرائيلى لإقامة” سلام مصرى–إسرائيلى” من خلال الحزب الشيوعى الإسرائيلى الذى إحتفظت “مجموعة روما” معه بصلات وثيقة. ويتجلى ذلك من النقاط المتصلة بإسرائيل فى الرسالتين فالمجموعة، تلعب دور ضباط الإتصال بين الأفراد الإسرائيليين المعتقلين فى مصر لأسباب تتصل بالأمن القومى، والذين أدين بعضهم فى قضايا التجسس وبين، عائلاتهم فى إسرائيل )من خلال نعومى كانل.(
كذلك كانت المعلومات المتعلقة بهم التى ترسلها نعومى كانل تبلغ، إلى جهة أو شخص أطلق عليه هنرى كورييل إسم “ايلى” ونعتقد أنه إسم
كودى، فمن كان يهمه–فى إسرائيل- أخبار الإسرائيليين المعتقلين
بمصر؟ سوى جهة أمنية إسرائيلية كالموساد على سبيل المثال!؟ ويتجلى ذلك أيضاً من إشادة هنرى كورييل بموقف “الحزب الشيوعى الإسرائيلى” وخاصة تلك” الأخوة الفريدة التى حققها النضال بين اليهود والعرب داخل صفوف الحزب ويرى، “أن تصريحات المسئولين العرب المعادية لإسرائيل” استفزازية وأعمال، “الفدائيين الفلسطينيين” استفزازية” ويطالب بتنمية” قوى السلام” فى البلاد العربية، لقد كان إبرام السلام بين العرب وإسرائيل وتحقيق، تعايش الدولة العبرية الصهيونية مع العرب هدفاً، سعت إليه” مجموعة روما” وبذلت جهوداً كبيرة لتحقيقه سواء، من خلال مصر أو من خلال منظمة التحرير الفلسطينية وعندما أغتيل هنرى كورييل في باريس عام 1978 قبل مغادرة مصعد بيته، كان يحمل بيده مفكرته الشخصية، وضع أصبعه بين صفحاتها على موعد يشير إلى لقاء مع “الدكتور“ وهو الإسم الذى استخدمه كلما حدد لقاء مع عصام السرطاوى أحدمعاونى ياسر عرفات الذى كان يتولى مسئولية الحوار الفلسطينى مع العناصر التقدمية فى إسرائيل[8].
لا نجزم أن يهود العالم كلهم مشاركون في العدوان على غزة لكننا نجزم بوحدة العقيدة وهي الإيمان بأرض الميعاد وإعادة بناء الهيكل بمن فيهم جماعة حراس المعبد (ناطوري كارتا) الذين يجري التعاطي معهم وكأنهم خصوم للكيان وهذا أمر غي صحيح بالمرة.
من الناحية الأخلاقية فنحن لا نرى مشروعية أو عقلانية إعلان الحرب على يهود العالم بأسرهم اتباعا لقول الله تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الحشر 8-9.
في رأينا أن يهود العالم يمتلكون رؤية متقاربة فيما بينهم ويسعون لنفس الغاية إلا أن قلة قليلة منهم تعمل من أجل الوصول للهدف عبر التفاوض والآخرون من شاكلة نتنياهو يؤمنون أن المسلمين في مرحلتهم الراهنة لا يجدي معهم غير القوة المفرطة.
حتى نتنياهو يتفاوض الآن لفرض شروطه أي أنه لا بأس بتحقيق الهدف عبر التفاوض وشكرا لهنري كورييل وعصام سرطاوي وياسر عرفات.
لا أصدق أن بوسعنا الرهان على اليهود لتحقيق شيء ما فالأمر يتعلق بعقيدة أساسية هي أرض الميعاد والمسيح اليهودي المخلص وهي أمور نعتقد جازمين أنها غير مطروحة للنقاش أو للتفاوض لدى المتطرفين أو المعتدلين.
دكتور أحمد راسم النفيس
12/03/2024
[1] ص 64-65 ج 2 الكامل في التاريخ ابن الأثير.
[2] نفس المصدر ج2 ص 71
[3] يهود مصر زبيدة عطا عين للدراسات 2010 القاهرة 100-108 باختصار
[4] الآن أتكلم مذكرات خالد محيي الدين ص 347.
[5] ص 348-349 نفس المصدر.
[6] ص 349 نفس المصدر
[7][7] ص 351 نفس المصدر
[8] أوراق هنري كوريل والحركة الشيوعية المصرية. د رءوف عباس ص 76-77.