دراسات النفيس

دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الإمام الرضا والصراع من أجل العدالة

الإمام الرضا والصراع من أجل العدالة

دكتور أحمد راسم النفيس

مصر

‏12‏/02‏/2024

يقول الشيخ المفيد في (الإرشاد):

وكانَ الإمامُ بَعْدَ أَبي الحسن موسى بن جعفر ابنَه أَبا الحسن عليَّ بن موسى الرضا عليهما السلامُ لِفَضْلهِ على جماعةِ إِخْوَتهِ وأَهْلِ بَيْتِهِ وظُهورِ عِلْمِهِ وحِلْمِهِ ووَرَعِهِ واجْتهادِهِ ، واجْتماعِ الخاصّةِ والعامّةِ على ذلك فيه ومَعْرِفَتِهِمْ به منه ، وبِنَصِّ أَبيهِ على إِمامَتِهِ عليه السلام من بَعْده وأشارته إِليه بذلك دونَ جَماعَةِ إِخْوَتهِ وأَهْلَ بَيْتِهِ.
وكانَ مَوْلدُهُ بالمدينةِ سنةَ ثمانٍ وأَربعينَ ومائة. وكانت بيعته بولاية عهد المأمون العباسي يوم السادس من رمضان سنة 201 هـ وقًبضَ بطوسٍ من أَرْضِ خُراسان، في صفر من سنة ثلاثٍ ومائتين، وله يومئذٍ خمسٌ وخمسونَ سنة، وأمُّه أُمُ ولدٍ يُقالُ لها: أُمّ البنين. وكانَتْ مُدَّةُ إِمامَتِهِ وقِيامِهِ بَعْدَ أَبيه في خِلافتهِ عشرين سنةً.

الإمام الرضا عليه السلام وولاية عهد المأمون.

المتابع للأحداث يرى أن ولادة خلافة المأمون كانت ولادة عسرة جاءت بعد حرب ضروس دارت رحاها بينه وبين أخيه محمد الأمين وهي حرب استمرت خمس سنوات من عام  193 حتى عام 198 للهجرة وما أن خلصت الخلافة للمأمون حتى التهبت ثورة محمد بن إبراهيم بن طباطبا بقيادة أبي السرايا تلك الثورة التي طال أمدها واتسع مداها وهددت وجود الدولة العباسية وهكذا وجد المأمون العباسي نفسه أمام حالة انشقاق وتفسخ للدولة العباسية التي فقدت وجهتها الأخلاقية واشتعل الصراع بين الأخوة الأعداء في كل مرحلة من مراحل انتقال السلطة.

لم يكن الصراع بين الأمين والمأمون أو بين الإخوة العباسيين عامة حدثا استثنائيا فهو ضمن السياق المألوف للعلاقة بين أفراد هذه الأسرة حيث يقتل الأخ أخاه ويشرع الإبن في قتل أمه فتسوقه هي إلى حتفه فكيف بالعلاقة بينهم وبين بقية الأمة؟!.

كما أن التاريخ العباسي الأسود كان حاضرا أمام الإمام علي بن موسى الرضا حينما عرض عليه المأمون الخلافة أولا ثم ولاية العهد.

كان مفهوما أن الوجود الشيعي وإن كان مبعثرا ومتفرقا يمثل ثقلا كبيرا لا يمكن تجاهله وإن كان لا يسهل استمالته فيتعين تحييده.

سفاح واحد أم كلهم سفاحَّون؟؟.

المشهور بلقب السفاح هو الخليفة العباسي الأول أبو العباس عبد الله بن علي بن محمد (أول القتلة والسفاحين ومصاصي الدماء) إلا أن ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة يمنح هذا اللقب لعبد الله بن علي العم ويروي (لما ولي السفاح الشام واستصفى أموال بني أمية لنفسه أعجبته نفسه وحسد ابن أخيه على الخلافة فأظهر الطعن على أبي العباس والتنقص له فلما بلغ ذلك أبا العباس كتب إليه يعاتبه على ما كان منه فزاده ذلك عجبا وحسدا بما فيه فحبس الخراج ودعا إلى نفسه وخلع طاعته ثم قرب موالي بني أمية وأطمعهم وسد ثغورهم وأبدى العزم وأظهره على محاربة أبي العباس وكتب إلى أبي مسلم فخرج إليه أبو مسلم وهزمه وأسره ثم قدم به على أبي العباس الذي حبسه في بيت جعل أساسه من الملح ثم أرسل الماء حول البيت وسقط البيت عليه فمات فيه) ص149 ج2.

تواصل الصراع بين شياطين بني العباس وبينهم وبين الطالبيين كما مع التيارات الزيدية التي نهجت نهج الشهيد العظيم زيد بن علي بن الحسين بينما بقي النهج العباسي قائما على الغدر والخسة وشراء الذمم.

الكامل لابن الأثير

ذكر قبض المهدي العباسي على يعقوب بن داود

في سنة 166 هـ قبض المهدي على وزيره يعقوب بن داود وألقى به في المطبق أو البئر حتى موته وموت أخيه الهادي وولاية هارون الرشيد.

كان يعقوب ينتمي إلى جماعة الثوار الزيدية الذين خرجوا مع زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام مما أثار غضب الحاشية العباسية التي كانت تواصل تحريض المهدي العباسي على التخلص منه والزج به في السجن.

فلما ولي يعقوب الوزارة أرسل إلى الزيدية فجمعهم وولاهم في المشرق والمغرب وكان السعاة يسعون بيعقوب ليلا ويتفرقون وهم يعتقدون أنه يقبضه بكرة فإذا أصبح غدا عليه فإذا نظر إليه تبسم وسأله عن مبيته فعاده المهدي من الغد ثم انقطع عنه فتمكن السعادة منه فاظهر المهدي السخط عليه ثم أمر به فسجن في سجن نصر وأخذ عماله وأصحابه فحبسوا.

قال يعقوب بن داود بعث إلي المهدي يوما فدخلت عليه وهو في مجلس مفروش بفرش مورد على بستان فيه شجر ورؤوس الشجر مع صجن المجلس وقد اكتسى ذلك الشجر بالأزهار من الخوخ والتفاح فما رأيت شيئا أحسن منه وعنده جارية عليها نحو ذلك الفرش ما رأيت أحسن منها فقال لي يا يعقوب كيف ترى مجلسنا هذا قلت على غاية الحسن فمتع الله أمير المؤمنين به قال هو لك بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به قال فدعوت له ثم قال لي يا يعقوب ولي إليك حاجة أحب أن تضمن لي قضاءها قلت الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة فاستحلفني بالله وبرأسه فحلفت لأعملن بما قال فقال هذا فلان بن فلان من ولد علي بن أبي طالب وأحب أن تكفيني مؤنته وتريحني منه وتعجل ذلك قلت أفعل فأخذته وأخذت الجارية وجميع ما في المجلس وأمر لي بمائة ألف درهم فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر وادخلت العلوي إلي وسألته عن حاله فأخبرني وإذا هو أعقل الناس وأحسنهم أبانة عن نفسه ثم قال ويحك يا يعقوب تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد قلت لا والله فهل فيك أنت خير قال كذا وكذا فأرسلت إلى من يثق إليه العلوي فأخذه وأعطيته مالأ وأرسلت الجارية إلى المهدي تعلمه الحال فأرسل إلى الطريق فأخذ العلوي وصاحبه والمال فلما كان الغد استحضرني المهدي وسألني عن العلوي فأخبرته أني قتلته فاستحلفني بالله وبرأسه فحلفت له فقال يا غلام اخرج الينا من في هذا البيت فأخرج العلوي وصاحبه والمال فبقيت متحيرا وامتنع مني الكلام فما أدري ما أقول فقال المهدي قد حل لي دمك ولكن احبسوه في المطبق ولا أذكر به فحبست في المطبق واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها فبقيت مدة لا أعرف عددها وأصبت ببصري وطال شعري حتى استرسل كهيئة البهائم قال فإني كذلك إذ دُعي بي وقيل لي سلم على أمير المؤمنين فسلمت قال أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت المهدي قال رحم الله المهدي قلت فالهادي قال رحم الله الهادي قلت فالرشيد قال نعم سل حاجتك قلت المقام بمكة فما بقي في مستمتع لشيء ولا بلاغ فاذن لي فسرت إلى مكة قال لم تطل أيامه بها حتى مات.

خلاصة القول أن البستان والجارية (الجاسوسة الحسناء) كانا الثمن الذي دفعه المهدي ليعقوب لينفذ المهمة القذرة الموكلة إليه وهي قتل ذلك العلوي وبقي يعقوب سجينا في المطبق عدة أعوام ولم يخرج منه إلا بعد هلاك الهادي ومجيئ هارون الرشيد.

وكان يعقوب قد ضجر بموضعه قبل حبسه وكان أصحاب المهدي يشربون عنده فكان يعقوب ينهاه عن ذلك ويعظه ويقول ليس على هذا استوزرتني ولا عليه صحبتك بعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ فضيق على المهدي حتى قيل ( فدع عنك يعقوب بن داود جانبا % وأقبل على صهباء طيبة النشر ) وقال يعقوب يوما للمهدي في أمر أراده هذا والله السرف فقال المهدي ويحك يا يعقوب إنما يحسن السرف بأهل الشرف ولولا السرف لم يعرف المكثرون من المقلين[1].

الصراع بين الهادي والرشيد

وفي سنة تسع وستين ومائة مات المهدي أبو عبد الله محمد بن عبد الله المنصور بماسبذان وسبب خروجه إليها أنه قد عزم على خلع ابنه موسى الهادي والبيعة للرشيد بولاية العهد وتقديمه على الهادي وهما أخوان شقيقان وأمهما الخيزران بنت عطاء فبعث إليه وهو بجرجان في المعنى فلم يفعل فبعث إليه في القدوم عليه فضرب الرسول وامتنع من القدوم عليه فسار المهدي يريده ومات مسموما حيث بعثت جارية من جواريه إلى ضرة لها باناء فيه سم فدعا به المهدي فأكل منه فخافت الجارية أن تقول إنه مسموم فمات من ساعته وكان موته في المحرم لثمان بقين منه وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وقيل عشر سنين وتسعا وأربعين يوما وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.

ولما حضرت القاسم بن مجاشع التميمي المرزوي الوفاة – كان من رؤساء الدولة العباسية ومؤسسيها- أوصى إلى المهدي فكتب (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم)! الآية ثم كتب والقاسم يشهد بذلك ويشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن علي بن أبي طالب وصى رسول الله ووارث الأمامة من بعده فعرضت الوصية على المهدي بعد موته فلما بلغ إلى هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها.

ثم دخلت سنة سبعين ومائة وكان الهادي قد جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر وكان سبب ذلك أن الهادي لما عزم على خلعه ذكره لقواده فأجابه إليه يزيد بن مزيد الشيباني وعبد الله بن مالك وعلي بن عيسى وغيرهم فخلعوا هارون وبايعوا لجعفر ووضعوا الشيعة فتكلموا في ذلك وتنقصوا الرشيد في مجلس الجماعة وقالوا لا نرضى به.

ذكر وفاة الهادي

إنها حقا عائلة محترمة فالأخ يقتل أخاه!! والأم تقتل ابنها فلذة كبدها قبل أن يتمكن هو من قتلها!!.

أراد أن يقتلها فقتلته!!.

أما حضرة (أمير المؤمنين) فيعرض بأمه الفاضلة (ويلي على ابن الفاعلة قد علمت أنه صاحبها)!!، ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى إلا إذا قتل الفاعل والفاعلة وابن الفاعلة!!.

وفي هذه السنة توفي الهادي موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في شهر ربيع الأول واختلف في سبب وفاته فقيل أنه كان من قبل جوار لأمه الخيزران كانت أمرتهن بقتله وكان سبب أمرها بذلك أنه لما ولي الخلافة كانت تستبد بالأمور دونه وتسلك به مسلك المهدي حتى مضى أربعة أشهر فانثال الناس إلى بابها وكانت المواكب تغدو وتروح إلى بابها فكلمته يوما في أمر لم يجد إلى أجابتها إليه سبيلا فقالت لا بد من أجابتي إليه فإنني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك فغضب الهادي وقال ويلي على ابن الفاعلة قد علمت أنه صاحبها والله لا قضيتها لك قالت إذا والله لا أسألك حاجة أبدا قال لا أبالي والله فغضبت وقامت مغضبة فقال مكانك والله والا أنا نفي من قرابتي من رسول الله لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي وخاصتي لأضربن عنقه ولأقبضن ماله ما هذه المواكب التي تغدو وتروح غلى بابك أمالك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك إياك وإياك لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي فانصرفت وهي لا تعقل فلم تنطق عنده بعدها ثم انه قال لأصحابه أيما خير أنا أم أنتم وأمي أمهاتكم قالوا بل أنت وأمك خير قال فأيكم يجب أن يتحدث الرجال بخبر أمه فيقال فعلت أم فلان وصنعت قالوا لا نحب ذلك قال فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون بحديثها فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها ثم بعث بأرز وقال قد استطبتها فكلي منها فقيل لها أمسكي حتى تنظري فجاؤوا بكلب فاطعموه فسقط لحمه لوقته فأرسل إليها كيف رأيت الأرز قالت طيبا قال ما أكلت منها ولو أكلت منها لاسترحت منك متى أفلح خليفة له أم وقيل كان سبب أمرها بذلك أن الهادي لما جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر خافت الخيزران على الرشيد فوضعت جواريها عليه لما مرض فقتلنه بالغم والجلوس على وجهه فمات فأرسلت إلى يحيى بن خالد تعلمه بموته.

وكانت وفاته ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول وقيل لأربع عشرة خلت من ربيع الأول وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر وكان عمره ستا وعشرين سنة وصلى عليه الرشيد وكانت كنيته أبا محمد وأمه الخيزران أم ولد ودفن بعيسى أباذ الكبرى في بستانه.

خلافة هارون

وفي هذه السنة 170 هـ بويع للرشيد هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في الليلة التي مات فيها الهادي وكان عمره حين ولى اثنتين وعشرين سنة وأمه الخيزران أم ولد يمانية جرشية وكان مولده بالري في آخر ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة.

وفي سنة اثنتين وثمانين ومائة بايع الرشيد لعبد الله المأمون بولاية العهد بعد الأمين وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همدان ولقبه المأمون وسلمه إلى جعفر بن يحيى وهذا من العجائب فإن الرشيد قد رأى ما صنع أبوه وجده المنصور بعيسى بن موسى حتى خلع نفسه من ولاية العهد وما صنع أخوه الهادي ليخلع نفسه من العهد فلو لم يعاجله الموت لخلعه ثم هو بعد ذلك يبايع للمأمون بعد الامين وحبك الشيء يعمي ويصم.

وفي سنة 183 هـ مات موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ببغداد في حبس الرشيد وكان سبب حبسه أن الرشيد اعتمر في شهر رمضان من سنة تسع وسبعين ومائة فلما عاد إلى المدينة على ساكنها الصلاة والسلام دخل إلى قبر النبي يزوره ومعه الناس فلما انتهى إلى القبر وقف فقال السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم إفتخارا على من حوله فدنا موسى بن جعفر فقال السلام عليك يا أبت فتغير وجه الرشيد وقال هذا الفخر يا أبا الحسن جدا ثم أخذه معه إلى العراق فحبسه عند السندي بن شاهك وتولى حبسه أخت السندي بن شاهك وكانت تتدين فحكت عنه أنه كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعا إلى أن يزول الليل ثم يقوم فيصلي حتى يصلي الصبح ثم يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى ثم يرقد يستيقظ قبل الزوال ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر ثم يذكر الله حتى يصلي المغرب ثم يصلي المغرب ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة فكان هذا دأبه إلى أن مات وكانت إذا رأته قالت خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل الصالح وكان يلقب الكاظم لأنه كان يحسن إلى من يسيء إليه كان هذا عادته أبدا ولما كان محبوسا بعث إلى الرشيد رسالة أنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا أن ينقضي عنك معه يوم من الرخاء حتى ينقضيا جميعا إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون[2].

الرشيد يجدد البيعة للأمين

ولما وصل الرشيد إلى مكة ومعه أولاده والفقهاء والقضاة والقواد كتب كتابا أشهد فيه على محمد الأمين وأشهد فيه من حضر بالوفاء للمأمون وكتب كتابا للمأمون أشهدهم عليه فيه بالوفاء للأمين وعلق الكتابين في الكعبة وجدد العهود عليهما في الكعبة ولما فعل الرشيد ذلك قال الناس قد ألقى بينهم شرا وحربا وخافوا عاقبة ذلك فكان ما خافوه.

ثم إن الرشيد في سنة تسع وثمانين شخص إلى قرماسين ومعه المأمون وأشهد على نفسه من عنده من القضاة والفقهاء أن جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون وجدد له البيعة عليهم وارسل إلى بغداد فجدد البيعة على محمد الأمين.

وفي سنة اثنتين وتسعين ومائة لخمس خلون من شعبان توجه الرشيد إلى خراسان لحرب رافع بن الليث وكان مريضا واستخلف على بغداد ابنه الأمين وأمر المأمون بالمقام ببغداد فقال الفضل بن سهل للمأمون حين أراد الرشيد المسير إلى خراسان لست تدري ما يحدث بالرشيد وخراسان ولايتك ومحمد الأمين المقدم عليك وإن أحسن ما يصنع بم أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم وزبيدة وأموالها فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه فطلب إليه ذلك فأجابه بعد امتناع فلما سار الرشيد سايره الصباح الطبري فقال له يا صباح لا أظنك تراني أبدا فدعا فقال ما أظنك تدري ما أجد قال الصباح لا والله فعدل عن الطريق واستظل بشجرة وأمر خواصه بالبعد فكشف عن بطنه فإذا عليه عصابة حرير حوالي بطنه فقال هذه علة أكتمها الناس كلهم ولكل واحد من ولدي علي رقيب فمسرور رقيب المأمون وجبرائيل بن بختيشوع رقيب الأمين وما منهم أحد إلا وهو يحصى أنفاسي ويستطيل دهري وان أردت أن تعلم ذلك فالساعة أدعو بدابة فيأتوني بدابة أعجف قطوف لتزيد بي علتي فاكتم علي ذلك فدعا له بالبقاء ثم طلب الرشيد دابة فجاؤوا بها على ما وصف فنظر إلى الصباح وركبها.

ليس فقط يقتل الأخ أخاه وتقتل الأم فلذة كبدها بل أن ولدي الرشيد الأمين والمأمون يتجسسان عليه ويحصيان عليه أنفاسه ومن الواضخ أنهما يتمنيان موته سريعا.

ووصل إليه وهو بطوس بشير بن الليث أخو رافع أسيرا فقال الرشيد والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة فقلت اقتلوه ثم دعا بقصاب فأمر به ففصل أعضاءه فلما فرغ منه أغمي عليه وتفرق الناس عنه فلما ايس من نفسه أمر بقبره فحفر في موضع عن الدار التي كان فيها وأنزل إليه وكان يقول في تلك الحال واسوأتاه من رسول الله[3].

الحرب بين الأمين والمأمون

بويع للأمين في بغداد وبقي المأمون متحصنا في خراسان ولم تلبث الأحداث أن تطورت نحو المواجهة الفاصلة بين الفريقين وكانت القيادة العسكرية لفريق المأمون بيد القائد الفذ طاهر بن الحسين الخزاعي الذي تمكن جيشه من دخول بغداد وقتل الأمين.

معلوم أن طاهر بن الحسين كان من شيعة أهل البيت ولما وصل الكتاب إلى المأمون بالفتح كان قد جهز جيشا كبيرا ليسيره نجدة لطاهر بن الحسين فأتاه الخبر بالفتح وأما الأمين فإنه لما أتاه نعي علي بن عيسى (قائد جيشه) كان يصطاد السمك فقال للذي أخبره ويلك دعني فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا ما صدت شيئا بعد، ثم بعث الفضل إلى نوفل الخادم وهو وكيل المأمون على ملكه بالسواد والناظر في أمر أولاده ببغداد وكان للمأمون معه ألف ألف درهم كان قد وصله بها الرشيد فأخذ جميع ما عنده وقبض ضياعه وغلاته فقال بعض شعراء بغداد في ذلك:

أضاع الخلافة غش الوزير * وفسق الأمير وجهل المشير 

ففضل وزير وبكر مشير * يريدان ما فيه حتف الأمير 

وما ذاك إلا طريق غرور * وشر المسالك طرق الغرور

ومشى القواد بعضهم إلى بعض في النصف من شوال فاتفقوا على طلب الأرزاق والشغب ففعلوا ذلك ففرق فيهم مالا كثيرا بعد أن قاتلهم عبد الله بن خازم فمنعه الأمين.

استعرضنا فيما سبق جانبا من حياة الترف والمجون التي عاشها أمراء الدولة العباسية واستخفافهم بدماء أهل بيت النبوة وحقدهم عليهم ورغبتهم في إبادتهم إدراكا منهم لأن الوجود الأخلاقي والمعنوي للأئمة الأطهار هو المهدد الحقيقي لوجودهم القائم على التلفيق والكذب.

هاهو المهدي يقول لوزيره يعقوب بن داود (ويحك يا يعقوب إنما يحسن السرف بأهل الشرف ولولا السرف لم يعرف المكثرون من المقلين) مكابرة لقول الله تبارك وتعالى (وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) الإسراء 26-27.

ثورة الجياع: ثورة ابن طباطبا وأبي السرايا

روى أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين بسنده:

سمعت زيد بن علي يقول يبايع الناس لرجل منا عند قصر الضرتين سنة تسع وتسعين ومائة في عشر من جمادى الأولى يباهي الله به الملائكة قال الحسن بن الحسين: فحدثت به محمد بن إبراهيم فبكى.

وروى أيضا حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا عمر بن شبة المكي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي قال يخطب على أعوادكم يا أهل الكوفة سنة تسع وتسعين ومائة في جمادى الأولى رجل منا أهل البيت يباهي الله به الملائكة.

ذكر المؤرخون (الطبري وأبو الفرج الأصفهاني) والرواية لأبي الفرج قال: كان سبب خروج محمد بن إبراهيم بن إسماعيل وهو ابن طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وأبي السرايا أن نصر بن شبيب كان قدم حاجا وكان متشيعا حسن المذهب وكان ينزل الجزيرة فلما ورد المدينة سأل عن بقايا أهل البيت ومن له ذكر منهم فذكر له علي بن عبيد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وعبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ومحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم ابن الحسن بن الحسن فأما علي بن عبيد الله فانه كان مشغولا بالعبادة لا يصل إليه أحد ولا يأذن له وأما عبد الله بن موسى فكان مطلوبا خائفا لا يلقاه أحد وأما محمد بن إبراهيم فانه كان يقارب الناس ويكلمهم في هذا الشأن فأتاه نصر بن شبيب فدخل إليه وذاكره مقتل أهل بيته وغصب الناس إياهم حقوقهم وقال حتى متى توطئون بالخسف وتهتضم شيعتكم وينزى على حقكم؟ وأكثر من القول في هذا المعنى إلى أن أجابه محمد بن إبراهيم وواعده اللقاء بالجزيرة وانصرف الحاج ثم خرج محمد بن إبراهيم إلى الجزيرة ومعه نفر من أصحابه وشيعته حتى قدم على نصر بن شبيب للموعد فجمع إليه نصر أهله وعشيرته وعرض ذلك عليهم فأجابه بعضهم وامتنع عليه بعض وحدث الخلاف فيما بينهم وفشل نصر بن شبيب في إقناعهم فتخلى عن مساندة محمد بن إبراهيم الذي قفل راجعا إلى الحجاز فلقي في طريقه أبا السرايا السري بن منصور أحد بني ربيعة بن ذهل بن شيبان وكان قد خالف السلطان ونابذه وعاث في نواحي السواد ومعه غلمان له فيهم أبو الشوك وسيار وأبو الهرماس وكان علوي الرأي ذا مذهب في التشيع فدعاه إلى نفسه فأجابه وسر بذلك وتواعدا على اللقاء بالكوفة وتوجه محمد بن إبراهيم إلى الكوفة يسأل عن أخبار الناس ويتأهب لأمره ويدعو من يثق به إلى ما يريد حتى اجتمع له بشر كثير.

الجوع يضرب المسلمين!!:

فبينما هو أي محمد يمشي في بعض طريق الكوفة إذ نظر إلى عجوز تتبع أحمال الرطب فتلتقط ما يسقط منها فتجمعه في كسائها الرث فسألها عما تصنع بذلك فقالت إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي ولي بنات لا يعدن على أنفسهن بشيء فأنا أتتبع هذا من الطريق وأتقوته أنا وولدي فبكى بكاء شديدا وقال  أنت والله وأشباهك تخرجوني غدا حتى يسفك دمي ونفذت بصيرته في الخروج.

وأقبل أبو السرايا لموعده على طريق البر حتى ورد عين التمر في فوارس معه حتى وصل إلى نينوى فجاء إلى قبر الحسين قال نصر بن مزاحم فحدثني رجل من أهل المدائن قال: إني لعند قبر الحسين في تلك الليلة وكانت ليلة ذات ريح ورعد ومطر إذا بفرسان قد أقبلوا فترجلوا إلى القبر فسلموا وأطال رجل منهم الزيارة ثم جعل يتمثل أبيات منصور ابن الزبرقان النمري:

نفسي فداء الحسين يوم عدا * إلى المنايا عدوا ولا قافل
ذاك يوم أنحى بشفرته * على سنام الإسلام والكاهل
كأنما أنت تعجبين ألا * ينزل بالقوم نقمة العاجل
لا يعجل الله إن عجلت وما * ربك عما ترين بالغافل
مظلومة والنبي والدها * تدير أرجاء مقلة جافل
ألا مساعير يغضبون لها * بسلة البيض والقنا الذابل

قال: فأقبل أبو السرايا علي فقال: ممن الرجل؟ فقلت من أهل المدائن فقال سبحان الله يحن الولي إلى وليه كما تحن الناقة إلى حوارها يا شيخ إن هذا موقف يكثر لك عند الله شكره ويعظم أجره ثم وثب فقال من كان هاهنا من الزيدية فليقم إلي فوثبت إليه جماعات من الناس فدنوا منه فخطبهم خطبة طويلة ذكر فيها أهل البيت وفضلهم وما خصوا به وذكر فعل الأمة بهم وظلمهم لهم وذكر الحسين بن علي فقال: أيها الناس هبكم لم تحضروا الحسين فتنصروه فما يقعدكم عمن أدركتموه ولحقتموه؟ وهو غدا خارج طالب بثأره وحقه وتراث آبائه وإقامة دين الله وما يمنعكم من نصرته ومؤازرته؟ إنني خارج من وجهي هذا إلى الكوفة للقيام بأمر الله والذب عن دينه والنصر لأهل بيته فمن كان له نية في ذلك فليلحق بي ثم مضى من فوره عائدا إلى الكوفة ومعه أصحابه.

وخرج محمد بن إبراهيم في اليوم الذي واعد فيه أبا السرايا للاجتماع بالكوفة وأظهر نفسه وبرز إلى ظهر الكوفة ومعه علي بن عبيد الله بن الحسين ابن علي بن الحسين وأهل الكوفة منبثون مثل الجراد إلا أنهم على غير نظام وليس لهم سلاح إلا العصي والسكاكين والآجر فلم يزل محمد بن إبراهيم ومن معه ينتظرون أبا السرايا ويتوقعونه فلا يرون له أثرا حتى يئسوا منه وشتمه بعضهم ولاموا محمد بن إبراهيم على الاستعانة به واغتم محمد بن إبراهيم بتأخره فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم من نحو الجرف علمان أصفران وخيل فتنادى الناس بالبشارة فكبروا ونظروا فإذا هو أبو السرايا ومن معه فأقبل على محمد بن إبراهيم وانكب عليه وعانقه ثم قال له يا ابن رسول الله ما يقيمك هاهنا؟ ادخل البلد فما يمنعك منه أحد فدخل هو وخطب الناس ودعاهم  إلى البيعة إلى الرضا من آل محمد والدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسيرة بحكم الكتاب فبايعه جميع الناس في موضع بالكوفة يعرف بقصر الضرتين.

هزيمة الفضل بن العباس:

ووجه محمد بن إبراهيم إلى الفضل بن العباس بن عيسى بن موسى رسولا يدعوه إلى بيعته ويستعين به في سلاح وقوة فوجد العباس قد خرج عن البلد وخندق حول داره وأقام مواليه في السلاح للحرب فأخبر الرسول محمدا بذلك فأنفذ محمد أبا السرايا إليهم وأمره أن يدعوهم ولا يبدأهم بقتال فلما صار إليهم تبعه أهل الكوفة كالجراد المنتشر فدعاهم فلم يصغوا إلى قوله ولم يجيبوا دعوته ورموه بالنشاب من خلف السور فقتل رجل من أصحابه فوجه به إلى محمد بن إبراهيم فأمره بقتالهم فقاتلهم وفر موالي الفضل بن العباس فلم يبق منهم أحد وفتح الباب فدخل أصحاب أبي السرايا ينهبونها ويخرجون حر المتاع منها فلما رأى ذلك أبو السرايا حظره ومنع الناس فأمسكوا عن النهب.

هزيمة زهير بن المسيب:

قال ومضى الفضل بن العباس فدخل على الحسن بن سهل فشكا إليه ما انتهك منه فوعده النصر والغرم والخلف ثم دعا بزهير بن المسيب فضم إليه الرجال وأمده بالأموال وندبه إلى المسير نحو أبي السرايا فسار حتى ورد قصر ابن هبيرة فأقام به ووجه ابنه أزهر بن زهير على مقدمته فنزل سوق أسد وسار أبو السرايا من الكوفة وقت العصر فأغذ السير حتى أتى معسكر أزهر بن زهير فطحن العسكر وأكثر القتل فيه وغنم دوابهم وأسلحتهم وانقطع الباقون في الليل منهزمين حتى وافوا زهيرا بالقصر فتغيظ من ذلك ورجع أبو السرايا إلى الكوفة وزحف زهير حتى نزل عند القنطرة ونادى أبو السرايا في الناس بالخروج فخرجوا حتى صادفوا زهيرا على قنطرة الكوفة في عشية باردة فهم يوقدون النار يستدفئون بها ويذكرون الله ويقرءون القرآن وأبو السرايا يسكن منهم ويحثهم وأقبل أهل بغداد يصيحون يا أهل الكوفة زينوا نساءكم وأخواتكم وبناتكم للفجور والله لنفعلن بهم كذا وكذا وأبو السرايا يقول لهم اذكروا الله وتوبوا إليه واستغفروه واستعينوه فلم يزل الناس في تلك الليلة يتحارسون طول ليلتهم حتى إذا أصبح نهض إليهم فوقف في عسكره وقد عشيت أبصار الناس من الدروع والبيض وهم على تعبئة حسنة وأصوات الطبول والبوقات مثل الرعد العاصف وأبو السرايا يقول يا أهل الكوفة صححوا نياتكم وأخلصوا لله ضمائركم واستنصروه على عدوكم وابرءوا إليه من حولكم وقوتكم واقرءوا القرآن قال ومر بنا الحسن بن الهذيل يستعرض الناس ويقول: يا معشر الزيدية هذا موقف تزل فيه الأقدام والسعيد من حاط دينه والرشيد من وفى لله بعهده وحفظ محمدا في عترته ألا إن الآجال موقوتة والأيام معدودة من هرب بنفسه من الموت كان الموت محيطا به ثم قال:

من لم يمت عبطة يمت هرما * الموت كأس والمرء ذائقها .


قال أبو الفرج الأصفهاني: الحسن بن الهذيل هو صاحب الحسين المقتول بفخ وقد روى عنه الحديث.

وكان هذا سنة تسع وتسعين ومائة.

وفرق عماله وأما إبراهيم بن موسى فأذعن له أهل اليمن بالطاعة بعد وقعة كانت بينهم يسيرة المدة وأما صاحبا واسط فان نصر البجلي صاحب واسط خرج إليهما فقاتلهما قتالا شديدا فثبتا له ثم انهزم ودخلا واسطا وجبيا الخراج وتألفا الناس وأما الجعفري صاحب البصرة فانه خرج إليه علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فاجتمعا ووافاهم زيد بن موسى بن جعفر ماضيا إلى الأهواز فاجتمعوا ولقيهم الحسن بن علي المعروف بالمأمون رجل من أهل باذغيس وكان على البصرة فقاتلوه وهزموه وحووا عسكره وحرق زيد بن موسى دور بني العباس بالبصرة فلقب بذلك وسمى زيد النار وتتابعت الكتب وتواترت على محمد بن محمد بالفتوح من كل ناحية وكتب إليه أهل الشام والجزيرة أنهم ينتظرون أن يوجه إليهم رسولا ليسمعوا له ويطيعوا.

وعظم أمر أبي السرايا على الحسن بن سهل وزير العباسيين وبلغ منه فكتب إلى طاهر بن الحسين أن يصير إليه لينفذه لقتاله فكتبت إليه رقعة لا يدري من كتبها فيها أبيات وهي:

قناع الشك يكشفه اليقين * وافضل كيدك الرأي الرصين
تثبت قبل ينفذ فيك أمر * يهيج لشره داء دفين
أتندب طاهر لقتال قوم * بنصرتهم وطاعتهم يدين
سيطلقها عليك معقلات * تصر ودونها حرب زبون
ويبعث كامنا في الصدر منه * ولا يخفى إذا ظهر المصون
فشأنك واليقين فقد أنارت * معالمه وأظلمت الظنون
ودونك ما نريد بعزم رأى * تدبره ودع ما لا يكون

فرجع عن رأيه ذلك وندب هرثمة بن أعين للقيام بهذه المهمة فتوجه نحو الكوفة وأبو السرايا بالقصر فالتقوا بساباط المدائن فاقتتلوا قتالا شديدا وعبأ هرثمة خيلا نحو البر فبعث أبو السرايا عدتهم يسيرون بإزائهم لئلا يكونوا كمينا ثم إن أبا السرايا حمل حملة فيمن معه فانهزم أصحاب هرثمة هزيمة رقيقة ثم عطفوا وجوه دوابهم فنادى أبو السرايا: لا تتبعوهم فإنها خديعة ومكر فوقفوا وتبعهم أبو كتلة فأبعد ثم رجع وأعلم أبو السرايا أنهم قد عبروا الفرات فرجع بالناس إلى الكوفة ثم خرج وخرج الناس معه وقد كان جاسوسه أخبره أن هرثمة يريد مواقعته في ذلك اليوم فعبأ الناس مما يلي الرصافة ومضى هو تحت القنطرة فلم يبعد حتى أقبلت خيل هرثمة فرجع أبو السرايا إلى الناس فقال: سووا عسكركم وأجمعوا أمركم وأقيموا صفوفكم وأقبل هرثمة فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله ونظر أبو السرايا إلى روح بن الحجاج قد رجع فقال: والله لئن رجعت لأضربن عنقك فرجع يقاتل حتى قتل واشتدت الحرب وكشف أبو السرايا رأسه وجعل يقول: أيها الناس صبر ساعة وثبات قليل فقد والله فشل القوم ولم يبق إلا هزيمتهم ثم حمل وخرج إليه قائد من قواد هرثمة وعليه الدرع والمغفر فضربه أبو السرايا ضربة على بيضته فقده وانهزمت المسودة هزيمة قبيحة وتبعهم أهل الكوفة يقتلونهم فنادى أبو السرايا: يا أهل الكوفة احذروا كرهم بعد الفرة فان العجم قوم دهاة فلم يصغوا إلى قوله وتبعوهم فلما أتته بهم الرسل وهو نازل بالمدائن معسكرا قال لأبي السرايا من أنت؟ قال السري بن المنصور قال لا بل أنت النذل ابن النذل المخذول ابن المخذول قم يا هارون بن أبي خالد فاضرب عنقه بأخيك عبدوس بن عبد الصمد فقام إليه فقدمه فضرب عنقه ثم أمر برأسه فصلب في الجانب الشرقي وصلب بدنه في الجانب الغربي وقتل غلامه أبا الشوك وصلب معه وحمل محمد بن محمد إلى خراسان فأقيم بين يدي المأمون فجعل المأمون يتعجب من حداثة سنه ثم أمر له بدار فأسكنها وجعل له فيها فرشا وخادما فكان فيها على سبيل الاعتقال والتوكيل وأقام على ذلك مدة يسيرة يقال: إن مقدارها أربعون يوما ثم دست إليه شربة سم فمات

ونظر في الدواوين فوجد من قتل من أصحاب السلطان في وقائع أبي السرايا مائتا ألف رجل.

كان الشيعة متوافرون في الدولة العباسية بل وفي قلب العالم الإسلامي طيلة التاريخ ولم تفلح السلطات المتعاقبة في محو وجودهم وتكفي الإشارة إلى رجل مثل طاهر بن الحسين ودوره ودور قبيلة خزاعة في الحفاظ على وجود الدولة العباسية لنفهم السبب الحقيقي لمحاولة المأمون استمالة الإمام الرضا عليه السلام إلى جواره.

كما أن وصية القاسم بن مجاشع التميمي وهو أحد مؤسسي الدولة تكشف أن الولاء الحقيقي لأقطابها كان للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وأن دولة بني العباس كانت مجرد عارض ألم بهذه الأمة ذات الأهواء المختلفة والمتفرقة وإن طال الزمان.

دكتور أحمد راسم النفيس

‏05‏/04‏/2024


[1] الكامل في التاريخ ابن الأثير ج5 ص 251-254.

[2] الكامل ابن الأثير ج5 ص 319-320.

[3] الكامل لابن الأثير ج5 ص 353-354.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى