مقالات النفيس

الدكتور أحمد راسم النفيس يكتب: بين الفوقية الأخلاقية والتفوق الأخلاقي

الدكتور أحمد راسم النفيس يكتب: بين الفوقية الأخلاقية والتفوق الأخلاقي

 

(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين) القصص

أثبتت الأحداث التاريخية أن الأمم تسقط وتنهار ثم تتلاشى عندما تحل بها الهزيمة الأخلاقية وتفقد القدرة على التمييز بين الخطأ و الصواب والحق والباطل فلا نراها تأمر بمعروف أو تنهى عن منكر بل يتحول المعروف منكرا والمنكر معروفا في وجدانها المتبلد (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) الإسراء

الهزيمة الأخلاقية لم تلحق بأمة ما بسبب الغزو الأجنبي الفكري أو العسكري بل هي التي تأتي بهذا الغزو وتهيئ له كل الفرص وتمهد له الأرض وتقول له هيت لك (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) وهي التي تحول القوة العسكرية ضعفا وهزالا وانهيارا وقد حلت هذه الهزيمة ببني إسرائيل من قبل عندما طلب منهم مجموعة من المطالب الأخلاقية الداخلية فرفضوها (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون* ثم انتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض) البقرة 84-85.

الهزيمة الأخلاقية وحدها هي القادرة على تحطيم أسطورة أرض الميعاد وشعب الله المختار فكيف يكون شعب الله المختار هو من يمارس أبشع أنواع الظلم والقهر ضد شعب محاصر ومضطهد ولا يملك شيئا مما يملكه الجبروت الصهيوني المتمادي في غيه وعدوانه والذي يمارس رياضة هدم المنازل والقتل بدم بارد مثلما يمارس تمارين الصباح.

التفوق الأخلاقي مكانة يمكن الوصول إليها ولكن لا بد من بذل الجهد المتواصل لتتربع الأمة على عرش الأخلاق متفوقة على من يحاول اللحاق بها وانتزاع القمة من بين أيديها وقديما قالوا الحفاظ على القمة أصعب من الوصول إليها ( ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) الحديد 16.

أما الفوقية الأخلاقية أو ذلك الإحساس الزائف بالاستعلاء فلا تعدو أن تكون مجرد ادعاء مريض يدعيه أولئك الذين كانوا يوما ما في القمة ولكنهم غيروا وبدلوا وقست قلوبهم وزين الله الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون أو الذين لم يكونوا أي شيء على الإطلاق ولكنهم ورثوا أو سرقوا السلطة والمال وأدوات التزييف والإعلام تلك الأدوات التي أقامت لهم صروحا في الخيال يحسبها الظمآن ماء حتى إذا جاءها لم يجد هنالك ماء ولم يجد إلا الهواء  والأهواء (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) مريم 59 (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) الأعراف 169.

التفوق الأخلاقي ضرورة بقاء ونماء (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون) (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) أما ادعاء الفوقية الأخلاقية مع بقاء الحال على ما هو عليه فهو الطريق الأقصر إلى الدمار وشتان بين من كان رصيده في الدنيا أعمالا صالحة وعدالة يبسطها في الأرض وأولئك الذين كانت أعمالهم جرائم وقتل وسلب ونهب ودمار لأن (البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت اعمل ما شئت كما تدين تدان).

المسألة لا تحتاج إلى عبقرية ليعرف الناس أي مستوى أخلاقي يعيشون فيه ويكفي أن يتأمل الإنسان في تلك الحكمة الواردة عن الإمام علي بن أبي طالب ليعرف أين هو بين الناس أو أين أمته بين العالمين (اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ) إنها نصيحة بنبذ الازدواجية الأخلاقية التي هي شاهد لا يقبل الشك أو الجدل على ما بلغه الفرد أو الأمة من مستوى أخلاقي.

ألم يحذر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من تلك الازدواجية عندما قال (إنما أهلك الذين من قبلكم انهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه و إذا سرق فيهم القوي تركوه)؟؟.

التفوق الأخلاقي نقيض الانتهازية الأخلاقية والبراجماتية النفعية التي تجعل من نقض العهود براعة وسياسة وعبقرية إجرامية تجعل من العالم غابة يتسيدها الأقوياء وتجعل من الحتمي تحول هذه الغابة إلى حضيض صحراوي يقضي على كل أنواع الحياة والنماء.

الحضارات بين التنافس و الصراع

لحكمة يعلمها الله سبحانه لم يجتمع الناس على دين واحد فهناك الأديان السماوية والأديان الوضعية كما أن الله تبارك وتعالى لم يخلق الناس من عرق واحد (إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فمنهم الأبيض والأسود والأصفر وفتح الله لكل هؤلاء موارد الكون (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و جعلنا بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا) ثم طلب من عباده أن يفعلوا الخير وأن يقولوا للناس حسنا ونهاهم عن الظلم والعدوان (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).

إذا فالغاية العليا للدين هي دفع الناس لفعل الخير وحضهم على تجنب الظلم والعدوان فأين نحن من كل هذه القيم وقد أصبح التدين أداة للتسلط والاستطالة والعلو على الناس وها نحن الآن نجني ثمرة ما زرعناه قتلا وخرابا وسفكا للدماء وكأن القرآن الكريم كان يخاطب غيرنا عندما حكى لنا قصة ابني آدم بالحق (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط إليك يدي لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين* إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) المائدة 28-29.

إنها أي قصة ابني آدم تقرر قاعدة الأخوة الإنسانية وترسخ قاعدة النهي عن العدوان وترسخ قاعدة كيف يمكن أن تكون مظلوما فتنتصر على عدوك القاتل المغرم بسفك الدماء وهتك الأعراض الذي ترك أخاه مقتولا مهتوك العورة دون أن يكترث بشيء من ذلك حتى بعث (الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه) ويعلمه كيف تحترم كرامة الإنسان وكيف تحترم حرمة الموتى.

لقد انتصر قابيل على هابيل جسديا عندما وثب عليه فقتله إلا أن المحصلة النهائية كانت هزيمة أخلاقية مروعة للقاتل وانتصارا معنويا باقيا للقتيل المظلوم.

إنها رسالة موجهة إلى كل أبناء آدم ونحن منهم باحترام كرامة الإنسان وحرمته حيا كان أو ميتا وتقديم النموذج الأخلاقي للبشرية كلها وهي الرسالة التي ينبغي أن نوجهها للعالم أجمع جنبا بجنب مع تمسكنا بحقنا في المقاومة المشروعة للظلم والعدوان.

الصراع الدائر بيننا وبين غيرنا.

إن هذه المحنة التي يعيشها الشعب الفلسطيني الذي يجري اقتلاعه من أرضه بإصرار و دأب شديدين من قبل الصهيونية وسط صمت و مباركة النظام العالمي بدعوى حماية من يملكون الأسلحة النووية و الأباتشي ممن يحاولون الحصول على البندقية والمسدس هو كارثة أخلاقية لا نظير لها أدت وستؤدي إلى خسارة هذا العدو ما يدعيه من تفوق أخلاقي و هنا تبرز الأهمية البالغة لأن يلتزم المسلمون نهجا أخلاقيا صارما في هذه الحرب الدائرة مهما اتسعت رقعة المواجهة بين الفريقين.

المعركة الأخلاقية الدائرة بيننا و بينهم تمثل ركنا رئيسيا ينبغي الالتزام به لمصلحتنا لا لمصلحتهم و الشيء المؤكد أن ليس من الممكن لنا أن ننتصر في مثل هذه المواجهة في ظل قيادات من نوعية ابن لادن أو الزرقاوي او بأساليب مثل خطف الرهائن أو إعدامهم بالسيف على الهواء مباشرة.

وإلى أن يأتي اليوم الذي يدرك فيه المسلمون أهمية هذا الجانب سيبقى الصهاينة والأمريكان بآلتهم الإعلامية المتفوقة وأدائهم الأخلاقي الهزيل هم سادة الموقف.

Arasem99@yahoo.com

دكتور أحمد راسم النفيس

الأستاذ بكلية الطب جامعة المنصورة

19-5-2004.

المنصورة مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى