دراسات النفيس

الشهيد الأول إطلالة على العصر المملوكي وموقفه من الشيعة

الشهيد الأول

 

إطلالة على العصر المملوكي

وموقفه من الشيعة

أبو عبد الله شمس الدين محمد بن مكي بن محمد الشامي العاملي الجزيني 734 ــ 786 هـ الشهير بالشهيد الأول من كبار فقهاء الشيعة في القرن الثامن الهجري، مؤلف كتاب اللمعة الدمشقية الكتاب الفقهي الشهير، وقُتل شهيداً على يد النواصب في العصر المملوكي.

 

 

المدقق في تاريخ المسلمين يمكن له أن يلاحظ عدة ظواهر بالغة الشذوذ والغرابة تفرد بها المسلمون عن سائر خلق الله.

إذا كان البعض يعاني من الدهشة بسبب تقديس الهندوس للبقر والبوذيين لبوذا فلا بد أن تعتريه دهشة أشد عندما يكتشف أن الأمة الإسلامية قد حُكمت لمدة ستة قرون بواسطة العبيد المجلوبين من شتى بقاع الأرض للقيام بمهمة واحدة هي الحكم والتحكم والقتل والقتال فضلا عن الكر والفر.

ستة قرون استبدل فيها حكم الفاطميين الأشراف بالعبيد اللقطاء من دون أن نسمع كلمة إدانة واحدة لهؤلاء أو إزراء على أصلهم الوضيع أو المنعدم أو لسوكهم الأكثر وضاعة وانحطاطا في حين لا يكف بعض الحمقى عن الطعن في نسب الخلفاء الفاطميين والزعم بأن أصولهم تعود إلى المجوس عبدة النار!!.

العبيد اللقطاء الذين حكموا قلب العالم الإسلامي ستة قرون وتولوا سدانة الحرمين الشريفين في مكة والمدينة المنورة ليس من بين آبائهم وأجدادهم من كان مجوسيا عابدا للنار نظرا لأن الأمة الإسلامية المنكوبة بعقلها وعقل شيوخها كانت تحتفظ بسجل كامل لأبناء الشوارع أو لنسب العبيد والإماء في حين ضاع سجل أنساب أهل البيت وأصبح من السهل على ميمون القداح المجوسي الديصاني أن ينتحل سلسلة نسب شريف ينتهي بأهل بيت النبوة عليهم السلام.

متى كان القوم ممن يكترثون لنسب شريف أو غير شريف؟!.

من أين جاءتهم تلك الغيرة والحمية على الحسب والنسب وهم الذين قتلوا وباركوا قتل علي بن أبي طالب والحسن والحسين وبقية العترة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين.

لقد شكلت تلك الحقبة التي بدأت مع استيلاء الغز الأيوبيين على الحكم في مصر بقيادة المرتزق الكردي صلاح الدين يوسف بن أيوب ثم أفضت السلطة للعبيد أو الرقيق المجلوبين من آسيا والقوقاز بداية بالملك المعز أو عز الدين أيبك التركماني:

والرواية للمقريزي في السلوك:

أخذ السلطنة في ربيع الآخر سنة 648 بعد أن قتل آخر ملوك بني أيوب وهو توران شاه ابن الصالح نجم الدين أيوب وتلقب بالملك المعز وجلس على تخت الملك بقلعة الجبل فورد الخبر من الغد بأخذ الملك المغيث عمر بن العادل الصغير الكرك والشوبك وأخذ الملك السعيد قلعة الصبيبة فاجتمع رأي الأمراء على إقامة الأشرف مظفر الدين موسى بن الناصر شريكا للمعز في السلطة فأقاموه معه وعمره نحو ست سنين في جمادى الآخرة وصارت المراسم تبرز عن الملكين إلا أن الأمر والنهي للمعز وليس للأشرف سوى مجرد الاسم وولي المعز الوزارة لشرف الدين أبي سعيد هبة الله بن صاعد الفائزي وهو أول قبطي ولي وزارة مصر وخرج المعز بالعساكر والعربان لمحاربة الناصر يوسف في 3 ذي القعدة فانتصر عليه.

(وعاد أيبك في 12 منه فنزل بالناس من البحرية بلاء لا يوصف ما بين قتل وسبي بحيث لو ملك الفرنج بلاد مصر ما زادوا في الفساد على ما فعله البحرية وكان كبراؤهم ثلاثة الأمير فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس البندقداري وبليان الرشيدي).

ويصف ابن تغري بردي ما حل بمصر والمصريين من هؤلاء الأوباش فيقول (ولما دخل الملك المعز أيبك هذا إلى القاهرة ومعه المماليك الصالحية مالوا على المصريين قتلا ونهبا ونهبوا أموالهم وسبوا حريمهم وفعلوا بهم ما لم يفعله الفرنج بالمسلمين)‏.‏

(وأحدث الوزير الأسعد هبة الله الفائزي مظالم لم تعهد بمصر قبله)

(ثم ورد الخبر في سنة 650 بحركة التتار إلى بغداد فقطع المعز اسم الأشرف من الخطبة وانفرد بالسلطنة ووضع الأشرف في السجن وكان بذلك آخر ملوك بني أيوب بمصر).

(وفيها كثر ضرر المماليك البحرية بمصر ومالوا على الناس وقتلوا ونهبوا الأموال وسبوا الحريم).‏

وفي سنة 650هـ أحدث الوزير الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد بن وهيب الفائزي حوادث وقرر على التجار وعلى أصحاب العقار أموالاً ورتب مكوساً وضمانات سماها الحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية وأخذ الجوالي من الذمة مضاعفة وأحدث التصقيع والتقويم وعدة أنواع من المظالم ورتب الملك المعز مملوكه الأمير سيف الدين قطز نائب السلطنة بديار مصر وأمر عدة من مماليكه فقويت شوكة البحرية وزاد شرهم وصار كبيرهم الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار الصالحي ملجأ لهم يسألونه في حوائجهم ويكون هو المتحدث مع الملك المعز‏.

 

ثورة الأشراف:

إنها حادثة بالغة الأهمية والخطورة في التاريخ المصري الذي جرى تقديمه كله في إطار جولات الكر والفر بين هؤلاء المماليك الأوغاد (المجاهدين) في سبيل الله من دون إن يجري إبراز شيء من مثالبهم في إطار التقليد العربي السلطوي العريق القائل (لا تنشروا غسيلكم الوسخ) مع أن أغلب أو كل غسيلنا السلطوي السياسي هو من ذلك الصنف الأكثر سوادا.

إنها أي جريمة تزييف وعي الأمة من خلال تعصيب الأعين بتلك العصابة السوداء والتستر على تلك المخازي السوداء والانقياد وراء تلك العقول الخرقاء التي تثني على خوارزم شاه المسئول الأول عن اجتياح التتار لبغداد وتمنحه وسام العقيدة الصحيحة لا لشيء إلا (لأنه لم يكن شيعيا).

يصف ابن تغري بردي عز الدين أيبك بقوله (وكان ملكًا شجاعًا كريمًا عاقلًا سيوسًا كثير البذل للأموال أطلق في مدة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة حتى رضي الناس بسلطان مسه الرق‏ وأما أهل مصر فلم يرضوا بذلك إلى أن مات وهم يسمعونه ما يكره حتى في وجهه إذا ركب ومر بالطرقات ويقولون‏:‏ لا نريد إلا سلطانًا رئيسًا مولودًا على الفطرة)‏.‏

وفي سنة 651هـ قام الشريف حصن الدين ثعلب بن الأمير الكبير نجم الدين علي بن الأمير الشريف فخر الدين إسماعيل بن حصن الدولة مجد العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن أبي جميل الجمدي وقال‏:‏ نحن أصحاب البلاد ومنع الأجناد من تناول الخراج وصرح هو وأصحابه‏: بأنا أحق بالملك من المماليك وقد كفى أنا خدمنا بني أيوب وهم خوارج خرجوا على البلاد‏ وأنفوا من خدمة الترك وقالوا إنما هم عبيد للخوارج وكتب إلى الملك الناصر صاحب دمشق يستحثه على القدوم إلى مصر‏.‏ واجتمع العرب – وهم يومئذ في كثرة من المال والخيل والرجال إلى الأمير حصن الدين ثعلب وهو بناحية دهروط صربان وأتوه من أقصى الصعيد وأطراف بلاد البحيرة والجيزة والفيوم وحلفوا له كلهم‏.‏

فبلغ عدة الفرسان اثني عشر ألف فارس وتجاوزت عدة الرجالة الإحصاء لكثرتهم‏.‏

فجهز إليهم الملك المعز أيبك الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والأمير فارس الدين أقطاي المستعرب في خمسة آلاف فارس‏.‏

فساروا إلى ناحية ذروة وبرز إليهم الأمير حصن الدين ثعلب فاقتتل الفريقان من بكرة النهار إلى الظهر‏.‏

ثم تفرق العرب عنه فولى منهزماً‏ وركب الترك أدبارهم يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل فحووا من الأسلاب والنسوان والأولاد والخيول والجمال والمواشي ما عجزوا عن ضبطه وعادوا إلى المخيم ببلبيس‏.‏

ثم عدوا إلى عرب الغربية والمنوفية من قبيلتي سنبس ولواتة وقد تجمعوا بناحية سخا وسنهور فأوقعوا بهم وسبوا حريمهم وقتلوا الرجال وتبدد كل عرب مصر وخمدت جمرتهم من حينئذ‏.‏ ولحق الشريف حصن الدين من بقي من أصحابه وبعث يطلب من الملك المعز الأمان فأمنه ووعده بإقطاعات له ولأصحابه ليصيروا من حملة العسكر وعوناً له على أعدائه‏.‏

فانخدع الشريف حصن الدين وظن أن الترك لا تستغني عنه في محاربة الملك الناصر وقدم في أصحابه وهو مطمئن إلى بلبيس‏.‏ فلما قرب من الدهليز نزل عن فرسه ليحضر مجلس السلطان فقبض عليه وعلي سائر من حضر معه وكانت عدتهم نحو ألفي فارس وستمائة راجل‏.‏

وأمر الملك المعز فنصبت الأخشاب من بلبيس إلى القاهرة وشنق الجميع وبعث بالشريف حصن إلى ثغر الإسكندرية فحبس بها وسلم لواليها الأمير شمس الدين محمد بن باخل‏.‏

وأمر المعز بزيادة القطعية على العرب وبزيادة القود المأخوذ منهم ومعاملتهم بالعنف والقهر‏.‏

فذلوا وقلوا حتى صار أمرهم على ما هو عليه الحال في وقتنا‏.

إنها الواقعة التي سكت عنها مؤرخو السلاطين ولم يذكرها لا الذهبي ولا ابن تغري بردي وذكرها المقريزي في السلوك فقد كان أقرب هؤلاء المؤرخين لمصر والمصريين وامتلاكه لحس أخلاقي وإنساني افتقده مؤرخو (العقيدة الصحيحة) المصابون بالهوس المعادي لأهل البيت عليهم السلام ولشيعتهم الأبرار.

فالرأي العام المصري الذي يزعم الأفاقون والمزورون أنه كان معاديا للخلافة الفاطمية والذي سر أيما سرور وسعد أيما سعادة بدولة المرتزقة الأيوبية!! التي قادت المسلمين عامة ومصر والمصريين خاصة من كارثة إلى كارثة ومن سيئ إلى أسوأ ومن مجاعة إلى مجاعة في حين تكشف لنا تلك الصفحات عن الانقسام الحادث في المجتمع المصري بين الموالين للمرتزقة الأيوبيين وخلفائهم من العبيد وبين العمود الفقري للمجتمع المصري من أشراف النسب المنتمين إلى الدوحة المحمدية الطاهرة وأشراف الموقع الاجتماعي من قبائل العرب الذين عبروا عن رأيهم في حال الأمة بتلك الكلمات (نحن أصحاب البلاد ونحن أحق بالملك من المماليك وكفى أنا خدمنا بني أيوب وهم خوارج خرجوا على البلاد‏ وأنفوا من خدمة الترك وقالوا إنما هم عبيد للخوارج) ثم امتنع من إعطاء الخراج لهؤلاء الأوباش!!.

لم يأت الشريف حصن الدين بن ثعلب لقيادة هذه الثورة من فراغ فهو رحمة الله عليه من بذل أقصى ما لديه من جهد لإنقاذ مصر والمصريين من الموت جوعا أيام مجاعة العادل أي قبل خمسين عاما من واقعة ثورته على ذلك العبد الفاجر عز الدين أيبك.

أما بقية المصريين ورغم تلك المجزرة الوحشية البشعة والتي تعتبر مذبحة دنشواي إلى جوارها لعب أطفال حيث امتدت المشانق من بلبيس إلى القاهرة فأصروا على إسماع ذلك الوغد المنحط رأيهم فيه.

وتلك هي المقاومة المصرية لحكومة الأوباش العبيد قطاع الطرق خلفاء الخوارج الأيوبيين وكم كانت ستبلغ درجة حزني وألمي لو لم أقرأ تلك السطور التي أفلتت من براثن الرقابة المملوكية الذاتية التي فرضها مؤرخو البلاط والطين والزفت المملوكي على أنفسهم وعلينا وعلى رأسهم صاحب هذا إسلامنا المزيف الذي ما زال يتقلب من خدمة عبد مملوكي إلى خدمة عبد خصي من هؤلاء الخصيان المماليك وكأن المصريين الذين عاشوا في ظل خلافة آل الرسول من الفاطميين كانوا ولا زالوا من الأساس فاقدين لحاسة الشم والقدرة على التمييز بين الغث والثمين منذ تلك العصور بينما تشهد تلك القراءة على أنهم أفقدوا تلك الحاسة بفعل فاعل مملوكي أو أموي وأخيرا وهابي وهم بعون الله يقدرون على استردادها لو أتيحت لهم القيادة والتوجيه والإرشاد.

تعددت الصور والأشكال ولا زال منطق وأداء عبيد العبيد وأزلام العبيد واحدا!!.

وإن لم تكونوا أصحاب ديانة فكونوا أحرارا في دنياكم!!!.

مجتمع الهرم المقلوب

بينما يحرص العالم بأسره على اختيار الطبقة الحاكمة من أفضل العناصر الاجتماعية إذا بنا نحن المسلمون نسقط تحت سنابك أرذل خلق الله أصلا ورغم ذلك لا يستحي القوم من إعلان رفضهم لولاية أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا لئلا يصبح الحكم والسلطة من حق أسرة تدعي لنفسها التميز على بقية خلق الله.

كانت هذه المصيبة التي نزلت بالعلم الإسلامي والتي دامت أكثر من ستة قرون مصداقا لكلمات الإمام علي بن أبي طالب (أَلاَ وَإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اَللَّهُ نبيكم صلى الله عليه واله وَاَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَلَيُقْصِرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا)[1].

 

من هم المماليك؟؟

يجيب المقريزي: إنما هم الرجال الذين كانوا في بلادهم ما بين ملاح سفينة ووقاد في تنور خباز ومحول ماء في غيط أشجار ونحو ذلك واستقر رأي الناصر على أن تسلم المماليك للفقيه يتلفهم بل ويتركون وشؤونهم فبدلت الأرض غير الأرض وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدرا وأشحهم نفسا وأجهلهم بأمر الدنيا وأكثرهم إعراضا عن الدين ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فأرة وأفسد من ذئب!!!…

لا جرم أن خربت أرض مصر والشام من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات بسوء إبالة الحكام وشدة عبث الولاة وسوء تصرف أولي الأمر حتى أنه ما من شهر إلا ويظهر من الخلل العام ما لا يتدارك فرطه!!.

مقتل الشهيد الأول

قتل شهيدنا الأول كما هو معلوم إبان حكم ذلك الشيء المسمى بالظاهر برقوق الذي وصفه المقريزي في كلمات موجزة فكفى ووفى:

(وكان حازماً مهاباً محباً لأهل الخير والعلم إذا أتاه أحد منهم قام إليه ولم يعرف قبله أحد من ملوك الترك يقوم لفقيه!! إلا أنه كان محباً لجمع المال‏ وحدث في أيامه تجاهر الناس بالبراطيل (الرشاوى) فلا يلي أحد وظيفة ولا عملاً إلا بمال فترقى للأعمال الجليلة والرتب السنية الأراذل وفسد بذلك كثير من الأحوال‏ وكان مولعاً بتقديم الأسافل وحط ذوي البيوتات وغيَّر ما كان للناس من الترتيب وعادى أكابر التركمان والعربان ببلاد الشام ومصر والحجاز‏.‏ واشتهر في أيامه ثلاثة أشياء قبيحة (فقط لا غير!!)‏:‏ إتيان الذكران حتى تشبه البغايا لبوارهن بالغلمان لينفق سوق فسوقهن وذلك لاشتهاره بتقريب المماليك الحسان وتهمته (..) وتهمة أمرائه بعمل الفاحشة فيهم‏ والتظاهر بالبراطيل التي يستأديها واقتدى الولاة به في ذلك حتى صار عرفاً غير منكر البتة‏.‏ وكساد الأسواق وقلة المكاسب لشحه وقلة عطائه‏ وبالجملة فمساوئه أضعاف حسناته‏ ولقد بعث العبد الصالح جمال الدين عبد الله السَكسيوي المغربي يخبر أبي – رحمهما اللّه – أنه رأى في منامه أن قرداً صعد منبر الجامع الحاكمي وخطب ثم نزل ودخل المحراب ليصلي بالناس الجمعة فثار الناس عليه في أثناء صلاته بهم وأخرجوه من المحراب‏ وكانت هذه الرؤيا في أخريات سلطة الملك الأشرف شعبان ابن حسين وفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة‏ فكان تقدمه على الناس وسلطنته تأويل هذه الرؤيا فإنه كان متخلقاً بكثير من أخلاق القردة شحاً وطمعاً وفساداً ورذالة ولكن اللّه يفعل ما يريد)‏.

في تلك الأثناء وفي كل عصور الانحطاط الإسلامي الممتدة حتى الآن كان مرض السعار المعادي للشيعة ولأهل البيت عليهم السلام يمتد ويشتد.

العبيد يؤممون المذاهب ويغلقون باب الاجتهاد بالضبة والمفتاح!!

يتساءل البسطاء العَبيديون عن إمكانية إعادة فتح باب الاجتهاد الذي قام أسلافهم العبيد بسده وبناء سد عال يشبه حوائط العزل العنصرية الفاصلة التي أقامها الصهاينة في فلسطين المحتلة يمنع اقتحامه ويقف حائلا منيعا في مواجهة أي محاولة لاختراقه خشية تسلل التشيع من بين فتحات التهوية أو كما قال الشيخ الشهير صاحب هيعة التبشير من الغزو الشيعي!!.

يروي المقريزي في كتاب الخطط:

وفي صفر سنة 365هـ جلس عليّ بن النعمان القاضي بجامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر وأملى مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت ويعرف هذا المختصر بالاقتصار وكان جمعًا عظيمًا وأثبت أسماء الحاضرين‏.‏

ولما تولى يعقوب بن كلس الوزارة للعزيز بالله نزار بن المعز رتب في داره العلماء من الأدباء والشعراء والفقهاء والمتكلمين وأجرى لجميعهم الأرزاق وألف كتابًا في الفقه ونصب له مجلسًا وهو يوم الثلاثاء يجتمع فيه الفقهاء وجماعة من المتكلمين وأهل الجدل وتجري بينهم المناظرات وكان يجلس أيضًا في يوم الجمعة فيقرأ مصنفاته على الناس بنفسه ويحضر عنده القضاة والفقهاء والقراء والنحاة وأصحاب الحديث ووجوه أهل العلم والشهود فإذا انقضى المجلس من القراءة قام الشعراء لإنشاد مدائحهم فيه وجعل للفقهاء في شهر رمضان الأطعمة وألف كتابًا في الفقه يتضمن ما سمعه من المعز لدين اللّه ومن ابنه العزيز باللّه وهو مبوب على أبواب الفقه يكون قدره مثل نصف صحيح البخاريّ ملكته ووقفت عليه وهو يشتمل على فقه الطائفة الإسماعيلية وكان يجلس لقراءة هذا الكتاب على الناس بنفسه وبين يديه خواص الناس وعوامّهم وسائر الفقهاء والقضاة والأدباء وأفتى الناس به ودرّسوا فيه بالجامع العتيق وأجرى العزيز باللّه لجماعة من الفقهاء يحضرون مجلس الوزير ويلازمونه أرزاقًا تكفيهم في كلّ شهر وأمر لهم ببناء دار إلى جانب الجامع الأزهر فإذا كان يوم الجمعة تحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تُصلّى صلاة العصر وكان لهم من مال الوزير أيضًا صلة في كلّ سنة وعدّتهم خمسة و ثلاثون رجلًا وخلع عليهم العزيز بالله في يوم عيد الفطر وحملهم على بغال‏.‏

وفي شهر ربيع الأوّل سنة 385هـ  جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسي بالقصر في القاهرة لقراءة علوم أهل البيت على الرسم المتقدّم فمات في الزحمة أحد عشر رجلًا‏.‏

وفي جمادى الآخرة من هذه السنة فتحت دار الحكمة بالقاهرة وجلس فيها القرّاء وحُملت الكتب إليها من خزائن القصور ودخل الناس إليها وجلس فيها القرّاء والفقهاء والمنجمون والنحاة وأصحاب اللغة والأطباء وحصل فيها من الكتب في سائر العلوم ما لم يُر مثله مجتمعًا وأجرى على من فيها من الخدّام والفقهاء الأرزاق السنية وجُعل فيها ما يُحتاج إليه من الحبر والأقلام والمحابر والورق.‏

وما برح حتى قدمت عساكر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من دمشق عليها أسد الدين شيركوه وولى وزارة مصر للخليفة العاضد لدين اللّه أبي محمد عبد اللّه بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين اللّه ومات فقام في الوزارة بعده ابن أخيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة وشرع في تغيير الدولة وإزالتها وحجر على العاضد وأوقع بأمراء الدولة وعساكرها وأنشأ بمدينة مصر مدرسة للفقهاء الشافعية ومدرسة للفقهاء المالكية وصرف قضاة مصر الشيعة كلهم‏:‏ وفوّض القضاء لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارانيّ الشافعيّ فلم يستنب عنه في إقليم مصر إلا من كان شافعيّ المذهب فتظاهر الناس من حينئذ بمذهب مالك والشافعيّ واختفى مذهب الشيعة والإسماعيلية والإمامية حتى فقد من أرض مصر كلها وكذلك كان السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر حنفيا فيه تعصب فنشر مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه ببلاد الشام ومنه كثرت الحنفية بمصر وقدم إليها أيضا عدة من بلاد الشرق وبنى لهم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب المدرسة السيوفية بالقاهرة ومازال مذهبهم ينتشر ويقوى وفقهاؤهم تكثر بمصر والشام من حينئذ‏.‏

وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن عليّ بن إسماعيل الآشعريّ تلميذ أبي علي الجبائيّ وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر.‏ فاستمرّ الحال على عقيدة الأشعري بديار مصر وبلاد الشام وأرض الحجاز واليمن وبلاد المغرب أيضًا لإدخال محمد بن تومرت رأي الأشعريّ إليها حتى أنه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد بحيث أن من خالفه ضرب عنقه والأمر على ذلك إلى اليوم ولم يكن في الدولة الأيوبية بمصر كثير ذكر لمذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ثم اشتهر مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل في آخرها‏.‏

فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ ولي بمصر والقاهرة أربعة قضاة وهم شافعيّ ومالكيّ وحنفيّ وحنبليّ‏.‏ فاستمرّ ذلك من سنة 665هـ حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة وعقيدة الأشعري وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه ولم يولّ قاض ولا قبلت شهادة أحد ولا قدّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلدًا لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها والعمل على هذا إلى اليوم. انتهى النقل عن المقريزي.‏

هذه هي الطريقة التي انتقلت إلينا من خلالها تلك التراتبية الرباعية المذهبية ولله در المقريزي حينما قال (حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب) وهو كلام العارف الخبير بأنها جميعها مذاهب في إطار الإسلام ولا يمكن أن تكون خارجة عنه.

التسامح المذهبي في العصر الفاطمي

يروي المقريزي في كتابه (اتعاظ الحنفا في أخبار الفاطميين الخلفا) في أخبار سنة 516 هجرية في عصر الخليفة الفاطمي الآمر:

وفي شوال وصل الفقيه أبو بكر بن محمد الفهري الطرطوشي من الإسكندرية بالكتاب الذي حمله‏:‏ (سراج الملوك) فأكرمه وأمر بإنزاله في المجلس المهيأ للإخوة واستدعى الفقيه‏.‏

فلما شاهده وقف ونزل عن المرتبة وجلس بين يديه ثم انصرف ومعه أخو المأمون إلى مكان أعد له وحمل إليه ما يحتاج له وأمر مشرف الجوالي أن يحمل له في كل يوم خمسة دنانير فامتنع الفقيه وأبي أن يقبل غير الدينارين اللذين كانا له في الأيام الأفضلية‏.‏ وصار المأمون يستدعيه في يومي راحته ويبالغ في كرامته ويقضي شفاعاته‏.‏

وكان السبب في حضوره أنه تكلم في الأيام الأفضلية في أمور المواريث وما يأخذه أمناء الحكم من أموال الأيتام وهو ربع العشر وأمر توريث الابنة النصف فلم يقبل ذلك ففاوض المأمون فيه وقال‏:‏ هذه قضية وجدتها وما أحدثتها وهي تسمى بالمذهب الدارج ويقال إن أمير الجيوش بدر هو الذي استجدها وهي أن كل من مات يعمل في ميراثه على حكم مذهبه وقد مر على ذلك سنون وصار أمراً مشروعا فكيف يجوز تغييره‏.‏

فقال له الفقيه‏:‏ إذا علمت ما يخلصك من الله غيرها فلك أجرها‏.‏

فقال أنا نائب الخليفة ومذهبه ومذهب جميع الشيعة من الزيدي والإمامي والإسماعيلي أن الإرث جميعه للابنة خاصة بلا عصبة ولا بيت مال ويتمسكون بأنه من كتاب الله كما يتمسك غيرهم وأبو حنيفة رحمه الله يوافقهم في القضية‏.‏

فقال الفقيه‏:‏ أنا مع وجود العصبة فلا بد من عدتها‏.‏

فقال المأمون أنا لا أقدر أن أرد على الجماعة مذهبهم والخليفة لا يرى به وينقضه على من أمر به بل أرى بشفاعة الفقيه أن أرد الجميع على رأي الدولة فيرجع كل أحد على حكمه في مذهبه فيما يخلصه من الله ويبطل حكم بيت المال الذي لم يذكره الله في كتابه ولا أمر به الرسول عليه السلام‏.‏

فأجاب إلى ذلك‏.‏ وأمر الوزير أن يكتب به وأن يكتب بتعويض أمناء الحكم عما يقتضونه من ربع العشر بتقرير جار لهم في كل شهر من مال الديوان على المواريث الحشرية وأخذ الفقيه في ذكر بقية حوائج أصحابه وكتب منه توقيع فرغت منه نسخ منها ما سير إلى الثغور وكبار الأعمال وشملته العلامة الآمرية وبعدها العلامة المأمونية‏.‏

ونسخته بعد البسملة‏:‏ خرج أمر أمير المؤمنين بإنشاء هذا المنشور عندما طالعه السيد الأجل المأمون أمير الجيوش ونعوته والدعاء وهو الخالصة أفعاله في حياطة المسلمين وذو المقاصد المصروفة إلى النظر في مصالح الدنيا والدين والهمة الموقوفة على الترقي إلى درجات المتقين والعزائم الكافلة بتشديد أحوال الكافة أجمعين شيمة خصه الله بفضيلتها جبلة أسعد بجلالها وشريف مزيتها‏.‏

والله سبحانه يجعل آراءه للتوفيق مقارنة وأنحاء الميامن كافلةً ضامنة من أمر المواريث وما أجراها عليه الحكام الدارجون بتغاير نظرهم وقرروه من تغيير عما كان يعهد بتغلب آرائهم وما دخل عليها منهم من الفساد والخروج بها عن المعهود المعتاد وهو أن لكل دارج من الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين مذاهبهم واعتقاداتهم تحمل ما يترك من موجوده على حكم مذهبه في حياته والمشهور من اعتقاده إلى حين وفاته فيخلص لحرم ذوي التشيع الوارثات جميع موروثهم وهو المنهج القويم لقول الله سبحانه‏:‏ ‏”‏وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏”‏‏.‏

ويحمل من سواهن على مذهب مخلفيهن ويشركهم بيت مال المسلمين في موجودهم ويحمل إليه جزء من أموالهم التي أحلها الله لهن بعدهم عدولاً عن محجة الدولة وخروجاً عما جاء به العباد من الأئمة الذين نزل في بيتهم الكتاب والحكمة فهم قراء القرآن وموضحو غوامضه ومشكلاته بأوضح البيان وإليهم سلم المؤمنون وعلى هديهم وإرشادهم يعول الموقنون فلم يرض أمير المؤمنين الاستمرار في ذلك على قاعدة واهية الأصول بعيدة من التحقيق خالية من المحصول ولم ير إلا العود فيه إلى عادة آبائه المطهرين وأسلافه العلماء المهديين صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏

وخرج أمره إلى السيد الأجل المأمون بالإيعاز إلى القاضي ثقة الملك النائب في الحكم عنه بتحذيره والأمر له بتحذير جميع النواب في الأحكام بالمعزية القاهرة ومصر وسائر الأعمال دانيها وقاصيها قريبها ونائيها من الاستمرار على تلك السنة المتجددة ورفض تلك القوانين التي كانت معتمدة واستئناف العمل في ذلك بما يراه الأئمة المطهرة وأسلافه الكرام البررة وإعادة جميع مواريث الناس على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم إلى المعهود من رأي الدولة فيها والإفراج عنها برمتها لمستحقيها من غير اعتراض عليهم في قليلها ولا كثيرها وأن يضربوا عما تقدم صفحا ويطووا دونه كشحا منذ تاريخ هذا التوقيع وفيما يأتي بعده مستمرا غير مستدرك لما فات ومضى ولا متعقب لما ذهب وانقضى‏.‏

وليوف الأجل المأمون عضد الله به الدين بامتثال هذا المأمور والاعتماد على مضمون هذا المسطور وليحذر كلا من القضاة والنواب والمستخدمين في الباب وسائر الأعمال من اعتراض موجود أحد ممن يسقط الوفاة وله وارث بالغ رشيد حاضر أو غائب ذكرا كان أو أنثى من سائر الناس على اختلاف الأديان بشيء من التأولات أو تعقب ورثته بنوع من أنواع التعقبات إلا ما أوجبته بينهم المحاكمات والقوانين الشرعيات الواجبات نظراً إلى مصالح الكافة ومدا لجناح العاطفة عليهم والرأفة ومضاعفة للأنام وإبانةً عن شريف القصد إليهم والاهتمام‏.‏

فأما من يموت حشريا ولا وارث له حاضر ولا غائب فموجوده لبيت المال بأجمعه على الأوضاع السليمة والقوانين المعلومة القويمة إلا ما يستحقه خرج إن كان له أو دين عليه يثبت في جهته‏.‏

وإن سقط متوفى وله وارث غائب فليحفظ الحكام والمستخدمون على تركته احتياطاً حكميا وقانونا شرعيا مصوناً من الاصطلام محروساً من التفريط والاخترام فإن حضر وأثبت استحقاقه ذلك في مجلس الحكم بالباب على الأوضاع الشرعية الخالصة من الشبه والارتياب طولع بذلك ليخرج الأمر بتسليمه إليه والإشهاد يقبضه عليه‏.‏

وكذلك نمى إلى حضرة أمير المؤمنين أن شهود الحكم بالباب وجميع الأعمال إذا شارف أحد منهم بيع شيء مما يجري في المواريث من الترك التي يتولاها الحكام يأخذون ربع العشر من ثمن المبيع فيعود ذلك بالنقيصة في أموال الأيتام والتعرض إلى الممنوع الحرام اصطلاحاً استمروا على فعله واعتماداً لم يجر الأمر فيه على حكمه فكره ذلك وأنكره‏.‏

واستفظعه وأكبره واقتضى حسن نظره في الفريقين ما خرج به أمره من توفير مال الأيتام وتعويض من يباشر ذلك من الشهود جارياً يقام لكل منهم من الإنعام وأمر بوضع هذا الرسم وتعفيته وإبطاله وحسم مادته‏.‏

فليعتمد القاضي ثقة الملك ذلك بالباب وليصدر الإعلام إلى سائر النواب سلوكاً لمحجة الدين وعملاً بأعمال الفائزين السعداء المتقين بعد تلاوة هذا التوقيع في المسجدين الجامعين بالمعزية القاهرة المحروسة ومدينة مصر على رءوس الأشهاد ليتساوى في معرفة مضمونه كل قريب وبعيد وحاضر وباد ولتفرغ منه النسخ إلى جميع النواب عنه في الأعمال وليجلد في مجلس الحكم بعد ثبوته في ديواني المجلس والخاص الآمري وحيث يثبت مثله إن شاء الله تعالى حجة مودعة في اليوم وما بعده‏.‏

وكتب لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ست عشرة وخمسمائة‏.‏

ثم حضر الفقيه أبو بكر لوداع الوزير وعرفه ما عزم عليه من إنشاء مسجد بظاهر الثغر على البحر فكتب إلى ابن حديد بموافقة الفقيه على موضع يتخيره وأن يبالغ في إتقانه وسرعة إنجازه وتكون النفقة عليه من مال ديوانه دون مال الدولة‏.‏ وتوجه فبنى المسجد المذكور على باب البحر‏.‏

ولسنا بحاجة لمقارنة الطريقة التي عومل بها الفقيه الطرطوشي مالكي المذهب بالطريقة التي عومل به فقيهنا الشهيد الأول وكيف قوبل الفقيه والكتاب بالبشر والترحاب ونوقش رأيه بالتي هي أحسن كما أنه لم يرجع خالي الوفاض بل قبل منه ما يتعين قبوله رغم أنه لم يكن إماميا ولا إسماعيليا وشتان ما بين النور والظلماء!!.

بعض الأحداث التي سبقت مقتل الشهيد الأول:

لم يكن مقتل الشهيد الأول على يد أولئك المنحطين حدثا خارج السياق المعادي للشيعة ولأهل البيت عامة.

الآن وفي القرن الحادي والعشرين ما زال القوم يصرون على غناء نفس اللحن عن كفر الشيعة وعن سب الصحابة وهي تهمة تلصق بكل من أعلن الولاء لأهل البيت ورضي إمامتهم.

نريد أن نعرف من القوم ما هي الوسيلة التي يمكن من خلالها المرء أن يتبع مذهب أهل البيت في الفقه والعقيدة والأخلاق دون أن تثور ثائرتهم وتنصب المحاكمات وتصدر أحكام الإعدام بتهمة سب الصحابة واتهام أم المؤمنين عائشة بكذا وكذا؟!.

لن تحصل على جواب شاف إلا السب والشتم وأحكام الإعدام إذا تمكنوا من ذلك كما سنرى في هذا البحث.

في بعض الأحيان كان حكم الإعدام ينفذ حرقا ولا يستخدم حتى السيف كما ذكرنا في بحثنا عن الشهيد الثاني باعتبار أن القوم أحكامهم أحكام إلهية ولهم جنة ونار!!.

ودونكم بعض النماذج من هذا السلوك اللا إنساني واللا أخلاقي الذي اعتاده القوم الذين يتحدثون عن الإسلام وسماحته ويتشدقون بما يسمون قبول الآخر!!.

يروي ابن كثير في البداية والنهاية:

في سنة 699هـ وفي يوم الجمعة العشرين من شعبان ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر وهربوا حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيرا منهم فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب وحصل بذلك خير كثير وانتصار كبير على أولئك المفسدين والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال وأقطعت أراضيهم وضياعهم ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة ولا يدينون دين الحق ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله وعاد نائب السلطنة يوم الأحد ثالث عشر ذي القعدة وتلقاه الناس بالشموع إلى طريق بعلبك وسط النهار.

ويروي المقريزي في السلوك: وفي المحرم 705هـ‏ توجه شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في ذي الحجة  من دمشق ومعه الأمير بهاء الدين قراقوش المنصوري إلى أهل جبل كسروان يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا‏.‏ فجمعت العساكر لقتالهم‏.‏‏ فسار الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام من دمشق في عساكرها لقتال أهل جبال كسروان ونادى بالمدينة من تأخر من الأجناد والرجالة شنق‏.‏ فاجتمع له نحو خمسين ألف راجل وزحف بهم لمهاجمة أهل تلك الجبال ونازلهم وخرب ضياعهم وقطع كرومهم ومزقهم بعدما قاتلهم أحد عشر يوماً وملك الجبل عنوة ووضع فيهم السيف وأسر ستمائة رجل وغنمت العساكر منهم مالاً عظيماً وعاد إلى دمشق في رابع عشر صفر[2]‏.‏

كما يروي ابن كثير في البداية والنهاية أيضا:

وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى 744 قتل بسوق الخيل حسن بن الشيخ السكاكيني على ما ظهر منه من الرفض الدال على الكفر المحض شهد عليه عند القاضي شرف الدين المالكي بشهادات كثيرة تدل على كفره وأنه رافضي جلد فمن ذلك تكفير الشيخين رضي الله عنهما وقذفه أمي المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما وزعم أن جبريل غلط فأوحى إلى محمد وإنما كان مرسلا إلى على وغير ذلك من الأقوال الباطلة القبيحة قبحه الله وقد فعل وكان والده الشيخ محمد السكاكيني يعرف مذهب الرافضة والشيعة جيدا وكانت له أسئلة على مذهب أهل الخير ونظم في ذلك قصيدة أجابه فيها شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله.

وفي يوم الخميس سابع عشره من صفر سنة ست وستين وسبعمائة وجد رجل بالجامع الأموي اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنهما فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي فاستتابه عن ذلك وأحضر الضراب فأول ضربة قال لا إله إلا الله علي ولي الله ولما ضرب الثانية لعن أبا بكر وعمر فالتهمه العامة فأوسعوه ضربا مبرحا بحيث كاد يهلك فجعل القاضي يكفهم عنه فلم يستطع ذلك فجعل الرافضي يسب ويلعن الصحابة وقال كانوا على الضلال فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة وشهد عليه قوله بأنهم كانوا على الضلالة فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه فأخذ إلى ظهر البلد فضربت عنقه وأحرقته العامة قبحه الله وكان ممن يقرأ بمدرسة أبي عمر ثم ظهر عليه الرفض فسجنه الحنبلي أربعين يوما فلم ينفع ذلك وما زال يصرح في كل موطن يأمر فيه بالسب حتى كان يومه هذا أظهر مذهبه في الجامع.

التشفي في الشيعة

يروي ابن كثير في أخبار سنة سبع وخمسين وستمائة: والعجب أني وقفت في شهر ذي القعدة على كتاب أرسله بعض الناس إلى صاحب له من بلاد طرابلس وفيه يعرف الشيخ عماد الدين بما جرى في بلاد السواحل من الحريق من بلاد طرابلس إلى آخر معاملة بيروت إلى جميع كسروان أحرق الجبال كلها ومات الوحوش كلها مثل النمور والدب والثعلب والخنزير من الحريق ما بقي للوحوش موضع يهربون فيه وبقي الحريق عليه أياما وهرب الناس إلى جانب البحر من خوف النار واحترق زيتون كثير فلما نزل المطر أطفأه بإذن الله تعالى يعني الذي وقع في تشرين وذلك في ذي القعدة من هذه السنة قال ومن العجب أن ورقة من شجرة وقعت في بيت من مدخنته فأحرقت جميع ما فيه من الأثاث والثياب وغير ذلك ومن حلية حرير كثير وغالب هذه البلاد للدروز والرافضة.

قتل شهيدنا محمد بن مكي بعد أن وشِيَ به إلى أمير دمشق (بيدمر)، فسُجن في قلعة دمشق سنة كاملة، فلمّا ضجّ الناس خاف (بيدمر) ثورتهم وهجومهم على السجن لإنقاذه فعجل بقتله فقُدّم وقتل رضوان الله عليه وكانت شهادته في سنة 786هـ.

ثمّ لم تشتفِ القلوبُ المريضة بهذا حتّى طمعت بإهانة الرجل بعد شهادته، فقد أُمِر به أن يُصلب وهو مقتول على مرأىً من الناس، ثم رجم بالحجارة، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بإحراق جثمانه الطاهر[3].

ويروي ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب: وفيها قتل محمد بن مكي العراقي الرافضي كان عارفا بالأصول والعربية فشهد عليه بدمشق بانحلال العقيدة واعتقاد مذهب النصيرية واستحلال الخمر الصرف وغير ذلك من القبائح فضربت عنقه بدمشق في جمادى الأولى ضربت عنق رفيقه عرفة بطرابلس وكان على معتقده.

كانت هذه هي بعض ملامح هذا العصر الأسود عصر الانحطاط المملوكي.

فعندما حاول أشراف العرب متضامنين مع أشراف النسب إعادة الأمور إلى نصابها رفضا لحكم هؤلاء المجلوبين من شتى بقاع الأرض نصبت لهم المشانق من مدينة القاهرة إلى مدينة بلبيس في محافظة الشرقية الآن أي ما يجاوز السبعين كيلومترا طولا علق فيها أحرار الأمة فداء لعبيدها.

وفي ذلك المناخ المحكوم بالجهل وقرينه التعصب الأعمى نجم قرن الشيطان المسمى بابن تيميه وأخذ يصول ويجول دون أن يتمكن أحد من إيقافه أو إعادته إلى حجمه الطبيعي ثم بقيت بعد ذلك مخلفاته وبقايا بقاياه ليقتات عليها أصحاب النفوس المريضة والعقول الأكثر مرضا ويسوقوا بها أحفاد المماليك وأحفاد أحفادهم من أصحاب اليد الطولى في واقعنا المعاصر حتى الآن.

وبينما تكال التهم ضد الشيعة بالجملة والمفرق ضد الفاطميين مجردين لهم من نسبهم الشريف فيصفونهم بالعُبيديين لا نسمع كلمة نقد للعبيد الحقيقيين ولا لأنصارهم العَبيديين خدم العبيد من عشاق الذل والعبودية والخضوع والخنوع لكل من غلب وركب وسماه أشباه البشر سلطانا أو ملكا أو أميرا للمؤمنين!!.

الفاطميون العُبيديون أنشأوا حضارة وحققوا عدالة اجتماعية غير مسبوقة في تاريخنا الإسلامي المليء بتلك الصفحات السود, في حين لم يترك لنا العَبيديون إلا التخلف الحضاري والأمراض الأخلاقية الفتاكة التي مازالت تنخر كالسوس في جسد الأمة الذي لم يتعاف من يومها وحتى الآن.

لو قارنا بين ما حدث للشهيد العظيم محمد بن مكي العاملي الفقيه المجتهد والطريقة التي عومل بها المخالفون في المذهب من أتباع سائر المذاهب الفقهية الأخرى من قبل الفاطميين لأدركنا على الفور حجم الفاجعة التي عانت وتعاني منها الأمة الإسلامية بسبب هؤلاء المرضى المصابين بحالة السعار المعادي لأهل البيت عليهم السلام ولشيعتهم المظلومين المضطهدين.

وإلى أن يأتي اليوم الذي يقتنع فيه القوم بمبدأ حرية الاعتقاد وأن الله تبارك وتعالى وحده هو الذي سيفصل بين الخلائق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون فستبقى أوضاع المسلمين تتدهور من سيء إلى أسوأ.

دكتور أحمد راسم النفيس

المنصورة مصر

‏30‏/11‏/2008

‏2‏ ذو الحجة‏ 1429

[1] خطبة 16 نهج البلاغة.

[2] السلوك في أخبار الدول والملوك ج2 المقريزي.

http://www.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=259&CID=42#s1

[3] http://www.14masom.com/aalem-balad/32/1.htm

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى