دراسات النفيس

دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الشيخ أبو زهرة وثلاث كتب

دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الشيخ أبو زهرة وثلاث كتب

 

إنه العالم الأزهري الفقيه الراحل الشيخ محمد أبو زهرة أحد دعاة الحوار بين المذاهب الإسلامية وهو حوار لم يقتصر على التنقل بين عواصم البلدان الإسلامية لحضور المؤتمرات وإلقاء الكلمات بل تعداه إلى الكتابة والتعريف بأئمة المذاهب الإسلامية وهو ما يعد جزءا متمما لهذا التعارف والحوار.

أول هذه الكتب هو:

الإمام الصادق: حياته وعصره وآراؤه الفقهية.

يرى الشيخ أبو زهرة أن (المذهبية ينبغي أن تحل محل الطائفية وان من حق كل إنسان أن يعتنق من الآراء الفقهية ما يشاء فيكون للشافعي أن يختار من الحنفي وللشافعي أن يختار من الجعفري وألا عيب من التنقل الفكري بينها أما الطائفية فهي تورث مع الدم فيكون ابن الشيعي شيعيا وابن الزيدي زيديا).

ويقول رحمه الله (بهذه الروح المذهبية الخالية من الطائفية ندرس الإمام الصادق رضي الله عنه وعن آبائه الكرام).

إن هذا الرأي الذي ذهب إليه الشيخ أبو زهرة هو ما ذهب إليه شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت رحمه الله الذي أجاز في فتواه الشهيرة التنقل بين المذاهب الإسلامية بما فيها مذهب أهل البيت عليهم السلام.

من هو الإمام الصادق؟؟:

يقول الشيخ أبو زهرة (إنه جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب, ولد عام 80 هـ ومات سنة 148هـ وكان مولده ووفاته بالمدينة المنورة حيث تلقى علوم الحديث والقرآن والناسخ والمنسوخ ولم تقف علومه عند دراسة الفقه والحديث والقرآن فقد شغل عقله أيضا بعلم الكون وما اشتمل عليه إجابة لقوله تعالى “قل انظروا ماذا في السماوات والأرض” وكان تلميذه جابر بن حيان الطرطوسي قد ألف كتابا يشتمل على ألف ورقة تتضمن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة ومهما كان الخلاف حول صحة نسبتها فإننا نستطيع أن نقرر مطمئنين أن الإمام جعفر كان له علم بالكونيات وعني بدراستها) كما ينقل أبو زهرة ما ورد في رسالة (التوحيد) ثم يقول (وليس عندنا ما يوجب رد نسبة هذه الرسالة للإمام الصادق فإن الإمامية قد تلقوها بالقبول وقد ذكرنا في التمهيد أن ما يتلقاه الإمامية بالقبول لا نرده إلا بدليل قطعي لا شبهة فيه من كتاب أو سنة مشهورة أو متواترة إذ أن الأمر الذي تتلقاه طائفة كبيرة من العلماء بالقبول لا يرد إلا بدليل ولا يكون الرد من غير دليل إلا من الذين يريدون أن يهدموا العلوم بالشك المجرد وإن بناء العلوم يقوم على التسليم بالأسس التي أقامها السابقون ولا ينقض منها إلا ما ثبت أنه لم يصح في منطق الشرع والعقل) ج26.

الأهمية الكبرى لما قاله الشيخ أبو زهرة تتجلى في أسلوب المهاترات الذي اعتمده البعض في التعامل مع تراث أهل البيت العلمي والفقهي والادعاء المستمر بوجود انفصال تام بين أئمة أهل البيت وبين ما يروى عنهم ومثال ذلك التشكيك في نسبة نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب وإطلاق القول على عواهنه بأنه من تأليف الشريف الرضي رحمه الله مما يناقض هذه القاعدة العلمية المستقرة في التعامل مع التراث الإنساني بلا استثناء ورغم أن الشريف الرضي هو شاعر عربي مشهور وله تراثه الأدبي ويمكن لكل من كان له إلمام باللغة والأدب أن يقارن بين أسلوب الشريف الرضي وأسلوب الإمام علي ليتأكد بنفسه من بطلان هذه التهمة ناهيك عن أن إلقاء الاتهامات وتوزيعها ذات اليمين وذات الشمال من دون بينة ولا دليل ولا برهان فضلا عن لا أخلاقيته فهو كفيل حال تطبيقه بنقض التراث العلمي البشري قاطبة وليس تراث أهل البيت دون غيرهم.

الإمام جعفر والسياسة:

يقول الشيح أبو زهرة أن الإمام الصادق لم يطلب الخلافة علنا ولم يسع إليها ولكن الإمامية يقولون أنه كان إمام عصره ولم يخرج داعيا لنفسه آخذا بالتقية وينقلون عنه أنه قال (التقية ديني ودين آبائي) وهذا ما يقوله الإمامية لتعليل أنه لم ينازع أحدا الخلافة وغير الإمامية من جمهور أهل السنة يقولون أنه لم يكن خليفة ولم يطالب بها ولم ينازع عليها وأساس الخلاف بين الفريقين أن الإمام عند الإمامية ينال الخلافة بالوراثة أو بالوصية النبوية بينما يرى غيرهم أن الإمامة تكون بالبيعة والحكم بالفعل وجمهور المسلمين لا يعتبرون حكم الملوك كعبد الملك وأولاده والسفاح والمنصور خلافة نبوية وهي لم تتحقق إلا في الراشدين الأربعة مستدلين بقول النبي (الخلافة بعدي ثلاثون ثم ملك عضوض) كما أن الإمامية يعتبرون الإمام إماما ولم يخرج داعيا إلى نفسه.

ويذهب الشيخ أبو زهرة إلى أن علة عدم مطالبة جعفر الصادق هو ما حل بعمه زيد بن علي الذي خرج رغم نصح الناصحين بعدم الخروج وأن المسئولية في ذلك تقع على الشيعة الذين كانوا يغرون ولا ينصرون ويتكلمون ولا يفعلون وقد تأكد للإمام جعفر صحة موقفه هذا بعد خروج محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) في المدينة وأخيه إبراهيم في البصرة, ذلك الخروج الذي انتهى بتلك الفاجعة الأليمة.

ولنا على هذا الرأي تعقيب: إذ أن جمهور أهل السنة يرى أن الخلافة بدأت وانتهت (إسلامية) بل ويعد هذا من المسلمات بما فيها خلافة عبد الملك وأولاده والدليل على ذلك ما رواه مسلم من أن عبد الله بن عمر ذهب إلى عبد الله بن مطيع بعد مجزرة الحرة زمن يزيد بن معاوية (فقال إني أتيتك لأحدثك حديثا سمعته من رسول الله ص قال من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة (ليزيد) مات ميتة جاهلية!!. كما بايع أيضا لعبد الملك بن مروان بعد هدمه الكعبة والرواية أيضا لمسلم (عن عبد الله بن دينار قال شهدت ابن عمر لما بايع الناس عبد الملك بن مروان فكتب إليه إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت و إن بني قد أقروا بذلك).

ولا يخفى على القارئ دلالة هذه البيعة الدينية لهؤلاء الملوك المتغلبين.

أما أن الإمامة هي منصب أعلى وأسمى وأشمل من الحكومة الزمانية فهذا مما لا يجادل فيه أحد ومن هنا فالأمر لم يكن متعلقا بالشيعة وحدهم بل هو متعلق بإرادة جمهور المسلمين الذين تذبذبت مواقفهم وتخاذل من تخاذل منهم فكانت النتيجة الطبيعية أن أصبح الحكم لمن غلب.

ومن هنا فليس هناك ثمة تناقض بين التزام البعض بالعمل على التغيير الفكري والسياسي والأخلاقي ولجوء البعض الآخر للمواجهة المسلحة في ظل نظم سياسية كانت ترى أن القوة والقوة وحدها هي الوسيلة المثلى لإخضاع المعارضين ويكفي للتدليل على ذلك تلك الإبادة الجماعية التي تعرض لها الصحابة والتابعون يوم الحرة فضلا عن قصف الكعبة بالمنجنيق الأموي.

أما موقف الإمام الصادق من ثورة النفس الزكية فهو موقف المؤيد والمناصر ولو لم يشارك بصورة مباشرة ويكفي أنه أمدها بالرجال ومن بينهم ابنه الإمام موسى الكاظم.

علمه:

يقول الشيخ أبو زهرة (ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم كما اجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه فأئمة السنة الذين عاصروه تلقوا عنه وأخذوا ومنهم مالك وبقية طبقته كسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وغيرهم كثير, كما أخذ عنه أبو حنيفة واعتبره أعلم الناس وأعلمهم باختلاف الناس وقد تلقى عنه الحديث رواية طائفة كبيرة من التابعين منهم يحيى بن سعيد الأنصاري وأيوب السختياني وغيرهم, ولم يكن علمه مقصورا على الحديث وفقهه بل كان يدرس علم الكلام والأخلاق والمعتزلة يعتبرونه من أئمتهم ومن نهج منهجهم في فهم العقائد على ضوء العقل كما أشرنا إلى دراسته لعلم الكون وفوق كل هذه العلوم فقد كان الإمام الصادق على علم بالأخلاق).

علم الأخلاق:

وحتى نخفف من جفاف مادة هذا البحث ننقل إحدى الوصايا الأخلاقية للإمام جعفر الصادق التي أوردها الشيخ أبو زهرة.

قال الصادق: قال لي أبي علي بن الحسين: يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق فقلت: يا أبت من هم؟ قال: إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنزلة السراب  يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه  وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وإياك ومصاحبة القاطع  لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عز وجل في ثلاثة مواضع قال الله عز وجل:  “فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم* أولئك الذين  لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم” وقال عز وجل “الذين ينقضون عهد الله  من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم  اللعنة ولهم سواء الدار “وقال في البقرة” (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه  ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون).

الإلهام والكسب في علم الإمام الصادق:

يقرر الشيخ أبو زهرة منذ البدء أن الإشراق النفسي سبيل للحكمة وطريق للمعرفة الصادقة وأن الإلهام المجرد من غير دراسة وتعمق هو من قبيل الخوارق وليس من قبيل السنن الكونية الدارجة ثم ينقل آراء الفرقاء حول علم الإمام الصادق الذي يرى الإمامية أنه علم إلهامي وليس بكسبي بينما يرى أبو زهرة أنه علم كسبي فيه إشراق.

كما أنه ينفي العصمة عن أئمة أهل البيت مدللا على ذلك بأن رسول الله كان عرضة للخطأ في اجتهاده ضاربا المثل على ذلك بقصة أسرى بدر وهي القصة التي نرى لزاما علينا أن نبدي رأينا فيها ونوضح السبب في اعتراضنا عليها في أول فرصة مقبلة.

ولن نخوض في تفاصيل هذا النقاش حول طبيعة علم الصادق في هذا العرض المقدم لجمهورنا الذي لا يعرف من الأساس أو يعرف بالكاد من هو الإمام الصادق فالمهم أن يعرف القارئ أن الإمام الصادق هو إمام فقيه من أئمة أهل البيت إليه ينسب مذهب أهل البيت وكان من أعلم الناس باختلاف الفقهاء وأن دائرة علمه ومعارفه لا يمكن حصرها في الحديث والفقه وإنما تتجاوزها إلى دائرة أوسع من العلم والمعرفة الإسلامية والإنسانية.

ولا بأس أيضا أن ننوه بما عرضه شيخنا أبو زهرة عن دور الإمام الصادق في الحوار الفكري مع الجميع سواء من كانوا في موقع التلميذ من أستاذه وحتى مع الملاحدة ومنكري الأديان حيث حاورهم وأفحمهم ولم يطالب بتطبيق حد الردة عليهم ومن بين هؤلاء أبو شاكر الديصاني وابن أبي العوجاء الذي دخل عليه يوما فقال له الصادق: يا ابن أبي العوجاء أنت مصنوع أم غير مصنوع؟ قال لست بمصنوع فقال له الصادق فلو كنت مصنوعا كيف كنت؟ فلم يحر ابن أبي العوجاء جوابا وقام وخرج.

الكتاب الثاني: الإمام زيد بن علي.

يبدأ الشيخ أبو زهرة كتابه الثاني عن (زيد بن علي) من نفس المنطلق الذي بدأ منه كتابه السابق (لا للطائفية نعم للمذهبية) داعيا إلى (محو الطائفية وبقاء المذاهب) ونظرا لأهمية هذا المصطلح فمن الضروري أن نقول أن الانتماء لطائفة ليس عيبا في حد ذاته وإنما العيب في التعصب والانحياز الطائفي والعيب أن تنصر أخاك في الطائفة ظالما كان أم مظلوما وهو ما يناقض أبسط تعاليم الدين بمواجهة الظالم ونصرة المظلوم سواء كانت من طائفتك أو من غيرها.

يضرب أبو زهرة نموذجا على ضرورة التعاطي مع المذاهب باعتبارها مدارس علمية باقتباسه من مذهب أهل البيت أثناء وضع قانون الأحوال الشخصية (فقد أخذت اللجنة أحكام الطلاق المعلق والمقترن بالعدد لفظا أو إشارة وانه لا يقع إلا واحدة من مذهب الإمام جعفر الصادق ورغم أنها صرحت بأنها أخذته من فتاوى ابن تيميه إلا أن ابن تيميه أخذ ذلك من مذهب أهل البيت وصرح بذلك في فتاويه… كما أخذت مصر تأخير ميراث ولاء العتاقة عن ميراث الأقارب جميعا والزوجين من فقه الإمامية واعتبرت المذكرة التفسيرية  من مصادر هذا الجزء كتاب شرائع الإسلام).

من هو الإمام زيد؟؟.

إنه زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ولد سنة ثمانين هـ واستشهد رضوان الله عليه سنة 120 هـ.

أبوه هو علي زين العابدين وهو الوحيد من أبناء الإمام الحسين الذي نجا من مجزرة كربلاء وهو من هو في علمه وورعه وتقواه.

ولذا فإن زيدا هو تلميذ أبيه زين العابدين وقد تلقى عنه الفقه وهو أيضا شقيق الإمام محمد الباقر الذي خلف أباه في إمامة العلم والفقه والحديث.

زيد في ميدان العمل:

إنه العنوان الذي اختاره أبو زهرة ليتحدث من خلاله عن ثورة زيد الشهيد وهي الثورة التي حدثت كما هو معلوم سنة 122 للهجرة في الفترة التي سبقت انهيار الدولة الأموية, حيث كانت الساحة تموج بالغليان والرفض لهذه الدولة وكان من بين الحركات المناوئة  التحرك العباسي وهو يحكي لنا عن دوافع التحرك الزيدي ومن بينها أن زيدا قد اختار مذهب المعتزلة في فهم العقائد وهم يرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصولهم.

لقد وقع كثير من علمائنا الأفاضل بحسن نية في خطأ كبير عندما حاولوا تفسير الحركة الزيدية من خلال هذا البعد المعتزلي وكأن الثورة المسلحة ضد الطغيان الأموي قد أصبحت خارج حسابات أئمة أهل البيت منذ خروج الحسين بن علي واستشهاده على الصورة المعروفة ولم يلتفتوا إلى عديد الروايات الواردة عن هؤلاء الأئمة في مدح التحرك الزيدي ووصفه بأفضل الصفات وكأن التيارات السياسية لا يمكن لها أن تعتمد إلا خيارا واحدا إما العمل المسلح أو العمل السياسي!!.

الدليل على بطلان هذا المنطق أن الإمام الحسن رجح خيار المصالحة على خيار المواجهة بينما اختار الإمام الحسين خط الرفض والمواجهة ولا خلاف بين الإمامين.

ويروي لنا أبو زهرة أن تحرك زيد بدأ عندما عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري من ولاية الكوفة وولى يوسف بن عمر الثقفي مكانه ويبدو أن حرص الخليفة الأموي على المال كانت وراء هذا العزل (كان خالد يخطب فيقول إنكم تزعمون أني أغلي أسعاركم فعلى من يغليها لعنة الله “مشيرا إلى هشام” وكان هشام كتب إليه لا تبيعن من الغلات شيئا حتى تباع غلات أمير المؤمنين ويبدو كان مولعا بجمع الأموال فكان أن حسد خالدا على هذه الأموال فخلعه وصادر أمواله ويبدو أنه قد وجد فيها فرصة ليشفي حقده من أهل البيت فأرسل في استدعاء زيد بن علي وجماعة من بني هاشم للتحقيق معهم حول ما نسب إليهم من قبض أموال من خالد القسري فقال له زيد (أنشدك الله والرحم أن تبعث بي إلى يوسف بن عمر قال وما الذي تخاف منه قال أخاف أن يعتدي علي قال له هشام ليس ذلك له ودعا هشام كاتبه فكتب إلى يوسف بن عمر أما بعد فإذا قدم عليم فلان و فلان فاجمع بينهم و بين خالد القسري فإن هم أقروا بما ادعى عليهم فسرح بهم إلي وإن هم أنكروا فسله البينة فإن هو لم يقم البينة فاستحلفهم بعد العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما استودعهم يزيد بن خالد القسري وديعة و لا له قبلهم شيء ثم خل سبيلهم فقالوا لهشام إنا نخاف أن يتعدى كتابك و يطول علينا قال كلا أنا باعث معكم رجلا من الحرس يأخذه بذلك حتى يعجل الفراغ فسرح بهم إلى يوسف واحتبس أيوب بن سلمة لأن أخواله من بني أمية فلم يؤخذ بشيء من ذلك القرف)

أي أنها كانت حالة من التكدير الأمني والإهانة المتعمدة ولك أن تتخيل معاناة هؤلاء الكرام و هم يُرحلون من المدينة المنورة جنوبا إلى دمشق ثم إلى العراق ليستجوبوا عن بضعة آلاف من الدراهم من قبل الخليفة الأموي  الجشع الذي أطاح بأميره على الكوفة حسدا وطمعا وهو الذي كان يأمره ألا يبيع غلات العراق حتى يبيع هو محاصيله بالسعر الذي يريده!!!.

ويروى (أن زيدا قال لهشام لا توجهني إلى عبد ثقيف يتلاعب بي فقال لا بد من إشخاصك إليه!! ثم قال له هشام بلغني أنك تؤهل نفسك للخلافة وأنت ابن أمة قال ويلك وهل يضعني مكان أمي؟؟ والله لقد كان اسحق ابن حرة وإسماعيل ابن أمة فاختص الله عز وجل ولد إسماعيل فجعل منهم العرب فما زال كذلك ينمي حتى كان منهم رسول الله ثم قال اتق الله يا هشام فقال أو مثلك يأمرني بتقوى الله قال نعم إنه ليس أحد دون أن  لا يأمر بها ولا أحد دون أن يسمعها فأخرجه مع رسل من قبله فلما خرج قال والله إني لأعلم أنه ما أحب الحياة أحد قط إلا ذل.

وهناك رواية أخرى مكملة لتلك الرواية السابقة (فلما قعد زيد بين يدي هشام وحدثه حلف له على شيء فقال هشام لا أصدقك فقال زيد إن الله لا يرفع أحدا عن أن يرضى بالله و لم يضع أحدا عن أن يرضى بذلك منه قال له هشام إنه بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك لأنك ابن أمة فقال زيد إن لك جوابا قال تكلم قال إنه ليس أولى بالله ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه وهو إسماعيل بن إبراهيم و هو ابن أمة قد اختاره الله لنبوته و أخرج منه خير البشر فقال هشام فما يصنع أخوك البقرة فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه ثم قال سماه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الباقر و تسميه أنت البقرة لشد ما اختلفتما لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا فيرد الجنة و ترد النار فقال هشام خذوا بيد هذا الأحمق المائق فأخرجوه فأخذ الغلمان بيده فأقاموه فقال هشام احملوا هذا الخائن الأهوج إلى عامله فقال زيد لئن حملتني إليه لا أجتمع أنا وأنت حيين وليموتن الأعجل منا فأخرج زيد إلى المدينة حتى طردوه عن حدود الشام فلما فارقوه عدل إلى العراق ودخل إلى الكوفة فأعطاه البيعة أكثر أهلها.

وكتب هشام بن عبد الملك إلى يوسف بن عمر إذا قدم عليك زيد بن علي فاجمع بينه وبين خالد بن عبد الله القسري ولا يقيمن قبلك ساعة واحدة فإني رأيته رجلا حلو اللسان شديد البيان خليقا بتمويه الكلام وأهل العراق أسرع شيء إلى مثله.

فلما قدم زيد إلى الكوفة قال له يوسف ذكر خالد بن عبد الله أن له عندك ستمائة ألف درهم فأحضر خالد وعليه حديد ثقيل فقال له يوسف هذا زيد بن علي فاذكر مالك عنده فقال خالد والله الذي لا إله إلا هو ما لي عنده شيء قليل ولا كثير ولا أردتم بإحضاره إلا ظلمه وقال يوسف الثقفي لزيد (زعم خالد أنه أودعك مالا قال أنى يودعني مالا و هو يشتم آبائي على منبره فأرسل إلى خالد فأحضر فقال له هذا زيد قد زعمت أنك أودعته مالا وقد أنكر فنظر خالد في وجههما ثم قال أتريد أن تجمع مع إثمك في إثما في هذا وكيف أودعه مالا وأنا اشتمه وأشتم آباءه على المنبر فشتمه يوسف ثم رده إلى محبسه) ثم قال له يوسف إن أمير المؤمنين أمرني أن أخرجك من الكوفة ساعة قدومك قال زيد فأستريح ثلاثا ثم أخرج قال ما إلى ذلك من سبيل قال فيومي هذا قال و لا ساعة واحدة فأخرجه مع رسل من قبله وكانت الثورة التي أضمرها زيد والشهادة التي نالها فضلا عن التمثيل بجثته وصلبه عريانا في كناسة الكوفة وخرج متمثلا بقول الشاعر

منخرق الخفين يشكو الوجى        تنكبه أطراف مرد حداد

ِشرده الخوف و أزرى به             كذلك من يكره حر الجلادِ

قد كان في الموت راحة له   و الموت حتم في رقاب العبادِ

 

هل طلب زيد الخلافة؟؟

يرى الشيخ أبو زهرة أن زيد الشهيد خرج يطلب الخلافة وأن السياق التاريخي يؤيد ذلك وهو رأي الزيدية أيضا…

فما هي الحقيقة في ذلك؟؟.

لنرجع إلى ما نقله الرواة: كانت بيعته التي يبايع عليها الناس (إنا ندعوكم إلى كتاب وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ورد الظالمين وإقفال المجمّر (أي إبقاء الجنود في الثغور فترة طويلة) ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا و جهل حقنا). فيقول أتبايعون على ذلك؟؟ فإذا قالوا نعم وضع يده على يد المبايع ثم يقول عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن في السر والعلانية فإذا قال نعم مسح يده على يده ثم قال اللهم اشهد فمكث بذلك بضعة شهرا فلما دنا خروجه أمر أصحابه بالتهيؤ والاستعداد فشاع أمره بين الناس.

هذه واحدة والثانية ما قاله الإمام الصادق عن عمه زيد (لا تقولوا خرج زيد فإن زيدا كان عالما صدوقا ولم يدعكم إلى نفسه وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه فالخارج منا إلى أي شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به) أي أن الهدف من خروجه كان قصم ظهر النظام الأموي وليس الخلافة.

وبالتالي فنحن لا نشارك شيخنا أبو زهرة في رأيه الذي لم يجزم به عندما قال (أنه خرج مجاهدا للظلم داعيا إلى الحق وأنه لم يفرض لنفسه سلطانا حتى يستقر الأمر ويستولي على البلاد ويحكم وعندئذ يدعي الخلافة أو يدعو لمن يدعو له).

الفقه الزيدي:

لم يلتزم الشيخ أبو زهرة بما ألزم به نفسه عند دراسته للإمام الصادق من اللجوء إلى مصادر المذاهب الفقهية ذاتها عندما قام بدراسة (المذهب الزيدي) من أقوال الآخرين حيث ذكر بعد عرضه (لآرائه العقائدية والسياسية) “وقد أخذناها بالاستنباط لأننا لم نجد كلاما صريحا له في هذه المسائل وكان طريقنا في ذلك يقوم على أمور ثلاث أولها أن يكون ذلك رأيا لواصل بن عطاء. ثانيا أن ما ينسب إلى الزيدية من أقوال ونراه معقولا وقريبا من رأيه ومنطقه نعده من أقواله آرائه وثالثا: ما يقوله بعض المتصلين به فنعتبره من آرائه).

وهذه هي الإشكالية الكبرى في دراسة الزيدية أما نحن فكنا ولا زلنا نرى أن زيدا ليس هو الزيدية وأن الزيدية ليست بالضرورة هي زيد بن علي.

فزيد بن علي الثائر والقائم بالحق في مواجهة الظلم والطغيان شكل أنموذجا يحتذى به ويلهب قريحة أباة الضيم من يومها إلى قيام الساعة.

أما زيد الفقه والمنهج فهو ما طرحه المحتذون به من آراء ويشهد على ذلك ما قاله أبو زهرة إذ ليس هناك منظومة فقهية وعقائدية كاملة متكاملة تركها زيد رضوان الله عليه كي يقال للناس هذا مذهب زيد والأمر كله هو ما كونه وراكمه فقهاء المذهب ولسنا في وارد الطعن عليهم بل في وارد البيان ليس إلا.

الزيدية وقربهم من أهل السنة!!.

لطالما سمعت تلك المقولة عن قرب الزيدية دون بقية المذاهب الشيعية من أهل السنة ولا أدري عن أي قرب يتحدثون؟؟!!.

إن كانوا يتحدثون عن القرب الفقهي فالمذاهب الإسلامية السنية والشيعية متقاربة بالفعل أما عن المعتقد السياسي فالزيدية يشترطون في الإمام أن يكون: (مكلفاً ـ ذكراً ـ حراً ـ علوياً ـ فاطمياً ـ سليم الحواس والأطراف ـ مجتهداً ـ عادلاً ـ سخياً بوضع الحقوق في مواضعها ـ أكثر رأيه الإصابة ـ مقداماً ـ لم يتقدمه مجاب ـ يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر  ويستشير أولي الخبرة هذا في الحالات التي تسير فيها أمور المسلمين دون تسلط ظالم، أما في حالة وجود مغتصبين للسلطة، فإن طريق الإمامة هو الخروج أو  الثورة والخارج على الظلمة المستوفي لشروط الإمامة تجب نصرته ويكون هو الإمام في حين يوجب السنة السمع والطاعة للإمام المتغلب من دون قيد ولا اشتراط شرط واحد من تلك الشروط التي تشترطها الزيدية.

 

الكتاب الثالث

الميراث عند الجعفرية للشيخ أبو زهرة

تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه محاولة عملية آتت ثمارها بالفعل للتقريب والتعاون بين المذاهب المختلف حيث يذكر الشيخ أبو زهرة محاورته مع الدكتور عبد الرزاق السنهوري عندما اقترح عليه أن تكون المادة الفقهية دراسة مقارنة للأحوال الشخصية والمواريث وفقا للمذاهب الأربعة والمذهب الإمامي والمذهب الزيدي كما يذكر أبو زهرة أن أول من فتح عيون المذهب الشيعي في الدراسة الفقهية هو (المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم رضي الله عنه) الذي كان يعرض في دراساته الفقهية لبعض آراء الشيعة الإمامية والزيدية وهي الدراسة الفقهية المقارنة غير المقيدة بمذهب واحد وعلى ضوء هذه الدراسة اقتبس قانون الوصية رقم 71 سنة 1946 وهو الذي يجيز الوصية لوارث وعلى ضوء هذه الدراسة أيضا نهجنا فيما كتبناه في أبواب الفقه ذلك المنهج المستقيم وهو الاقتباس من هذه المذاهب والإشارة إلى ما نراه قوي السند واضح المعتمد من آراء الشيعة كأقوالهم في أيمان الطلاق والطلاق بثلاث بلفظ الثلاث وعدم وقوع الطلاق البدعي واشتراط الإشهاد لإيقاع الطلاق ونحو ذلك من الآراء التي نرى في الأخذ بها إصلاحا ونجد في دليلها قوة ونحن نفعل هذا بحق العلم علينا فإن الدارس للتاريخ الإسلامي عليه أن يقصد إليه في كل نواحيه وفي شتى مذاهبه فتراث رسول الله لكل العلماء والباحثين.

ويشرح لنا الشيخ أبو زهرة أهم الفروق بين الفقه الإمامي وبقية المذاهب في قضايا الميراث وهو عدم إقراره الإرث بالتعصيب أو توريث العصبات وهم أقرب رجل ذكر لا يتوسط بينه وبين المتوفى أنثى أي الأعمام وأبناء الأعمام فلا يعد منهم الخال ولا ابن الأخ لأم استدلالا بما رواه البخاري و مسلم (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأقرب رجل ذكر) وبناء عليه يحدث ما هو مشهور من قصر إرث البنات مع عدم وجود أخ ذكر على الثلثين ودخول الأعمام وأبناء الأعمام في الإرث.

واستدل الإمامية على اعتبار قرابة الأنثى كقرابة الذكر بقول الله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) كما أنهم  قد أنكروا صحة نسبة رواية (ألحقوا الفرائض..) إلى رسول الله التي رواها طاووس عن ابن عباس وقد أنكرها ابن عباس كما روى عنه قاربة بن مضروب “قال قلت: روى الناس عنك وعن طاووس أن ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر قال: من أهل العراق أنت قلت نعم قال أبلغ عني أني أقول قول الله عز وجل (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم اقرب لكم نفعا) وقوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) هل أبقتا شيئا ما قلت هذا ولا طاووس قاله فلقيت طاووسا فقال والله ما قلت هذا والرواية لم ترد إلا عن طاووس” أبو زهرة ص 95.

كما أن الفقه الإمامي قد ساوى بين أبناء الظهور وأبناء البطون في حق الإرث أي بين بنات البنت وبنات الابن بينما (لم يعتبر السنيون بنات البنت كبنات الابن ولا أبناء البنت كأبناء الابن بل و اعتبروا فروع الميت الذين تتوسط أنثى في اتصال قرابتهم بالميت ليست في مرتبة من لا تتوسط أنثى في قرابتهم وبعض الأئمة لم يعتبروها قرابة مورثة أصلا مثل مالك والشافعي والبعض الآخر اعتبرها مورثة ولكن إذا لم يكن هناك أحد من قرابة الذكور كما هو عند الحنفية والحنابلة) أبو زهرة 96.

الحوار المذهبي

حوار علماء أم حوار شياطين؟؟

المطلع على واقع المسلمين الآن يرى بوضوح أن الدوافع السياسية والمصلحية قد طغت على صوت العقل ومحت منطق العلم ليحل محله منطق السب والشتم وأخيرا منطق نسف المساجد والسيارات المفخخة.

إنه منطق الغباء الذي يرى أن الحل الأمثل لأي مخالف في الرأي هو اقتلاعه من جذوره, منطق (إني أرى عجاجة لا يطفئها إلا دم) وهاهي قد سالت بحور من الدم ولم ولن تنطفئ تلك العجاجة كما أن كلمة مسلم في أنحاء العالم قد أصبحت عنوانا على حوار الدم بدلا من حوار المنطق والعلم.

فمتى ينتبه المسلمون إلى أهمية تراث أسلافهم من المصلحين ويكفوا عن اتباع آراء المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون؟؟!!.

ومتى يواصل المسلمون ما بدأه طه حسين وأبو زهرة وشلتوت ليبنوا عليه لا أن يقدسوه ويعبدوه؟؟!!.

د أحمد راسم النفيس

17-10-2005.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى