
الدكتور أحمد راسم وثلاث كتب: علي بن أبي طالب، تاريخنا المفترى عليه، الولاية والنبوة لابن عربي
الدكتور أحمد راسم وثلاث كتب: علي بن أبي طالب، تاريخنا المفترى عليه، الولاية والنبوة لابن عربي
مقدمة:
ثلاثة كتب نقدمها في هذا العرض:
الكتاب الأول هو (علي بن أبي طالب) لمؤلفه الدكتور علي شريعتي وهو يقدم لنا فيه قراءة إنسانية من وجهة نظر الشيعة الإمامية لعلي بن أبي طالب الإمام الإنسان الذي يتعين على المسلمين إعادة تقديمه لأنفسهم وللعالم كله باعتباره نموذجا ومثلا أعلى.
الكتاب الثاني هو (تاريخنا المفترى عليه) للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي والذي يسعى فيه جاهدا لإعادة تقديم معاوية بن أبي سفيان باعتباره نموذجا ومثلا أعلى يتعين على الأمة أن تقدسه وأن تعلي شأنه كونه من أعظم حكام العالم وأقربهم للعدل والحكمة.
أما الكتاب الثالث فهو (الولاية والنبوة) عند الشيخ محيي الدين ابن عربي وهو يمثل رؤية صوفية لنفس تلك القضية قضية الإنسان الكامل والمثل الأعلى الذي يحتاج الناس إلى معرفته والتأسي به.
إنها قضية بالغة الأهمية على كل الأصعدة السياسية والتربوية والأخلاقية وهي ليست قضية دينية محضة بل هي قضية كل الشعوب التي تسعى للرقي والتحضر وهي مهمة ووظيفة العلماء والشعراء والأدباء والمفكرين التي يتعين عليهم القيام بها.
علي بن أبي طالب
للمفكر الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي.
ثلاث رؤى
الرؤية الأولى رؤية الشيعة لشخص علي بن أبي طالب ودوره في تاريخ الإسلام ودوره ومقامه.
والرؤية الثانية هي رؤية المؤرخين لاكتشاف دوره في مرحلة هامة وحساسة من تاريخ البشرية والإسلام وهي الرؤية التي تركز على دوره والمهام الملقاة على عاتقه والمقارنة بينه وبين خصومه السياسيين.
الرؤية الثالثة: هي علي والإنسان أي من منظار العالم المتخصص بدراسة الإنسان بمعنى دراسته دراسة إنسانية وهي نظرة تختلف عن نظرة التاريخية أو المذهبية.
ولذا فإنني سأحاول ما استطعت أن أدرس إنسانا اسمه علي بكل ما لشخصيته من أبعاد معقدة.
يتحدث علي شريعتي عن ذلك القاسم المشترك بين الفن والدين: فأحدهما يخفف الآلام من خلال العلاج الخادع والاستجابة المزيفة “الفن” … والآخر محاولة وسعي من أجل “النجاة” و”الخلاص” الحقيقي من هذا السجن وهو الدين ولذا فقد بادر الإنسان على مدى التاريخ إلى البناء والإبداع الذهني والواقعي لعله يسد النقص الذي يشعر به في هذه الدنيا وتلبية الحاجات النفسية والفكرية الذاتية الملحة للإنسان ومن بين تلك الأساليب التي اتخذها في التعبير عن تطلعه إلى العالم الآخر وعزمه على الانتقال إليه وملء الثغرات الناشئة عن شعوره بالنقص هو تصوير وبناء النموذج الأمثل والطموحات المتكاملة باستخدام الفكر والخيال.
ولما كان الإنسان نفسه يجهل غاية المطلوب لأنه لا يمتلك الثقافة الكافية التي تؤهله لتصويره وتحديده بالضبط لذا فقد اضطر تحت وطأة هذا الإحساس إلى تصوير (غاية المطلوب) والطموح الكامل افتراضيا فقام بصياغة القصة واختراع أبطال مستحيلة لا يمكن أن تكون في هذه الدنيا أبدا لأن الإنسان يحلم بذلك التصور المطلق الذي يعينه على تصور العالم المثالي والمدينة الفاضلة التي تخيلها الإنسان منذ زمن أفلاطون.
كما لجأ الإنسان أيضا تحت وطأة الشعور بالنقص الدافع للبحث عن الكمال إلى صياغة الأسطورة سواء كانت تلك الأسطورة متعلقة بشخصية واقعية من التاريخ وربما كانت شخصية عادية عاشت في التاريخ ويجعل منها شخصية غيبية ما ورائية من نوع الإنسان الطموح الذي ينبغي أن يكون ولا يكون أبدا.
أما النوع الثاني من الميثولوجيا فهي الأساطير التي لا أساس لها من الواقع أبدا بل هي خيال محض مثل حكايات مولوي وبروميثيوس وفينوس إلهة الجمال وغيرها من الأساطير الشهيرة.
ويرى علي شريعتي أن معالم الشخصية الإنسانية الأسطورية المثلى أو تلك التي حاولت الأساطير أن تحاكيها تتمثل في علي بن أبي طالب الذي اجتمعت فيه كل أضداد التاريخ لا أضداد الأساطير فهو نموذج في البيان ونموذج في الحرب والمبارزة وهو نموذج في التضحية المطلقة من أجل الإنسان…. فقد تنازل عن سعادته ومقامه ومنصبه ومنزلته واستقراره وقدرته وقوته وراحته وتنازل عن كل شيء من أجل الإنسان.
كما يقول شريعتي عن معنى الإمام (إنني لا أفهم من كلمة الإمام معنى القائد السياسي وحسب أو حتى القائد الاجتماعي في مجتمع ما وإنما أفهم منها ذلك النموذج الأعلى الذي كانت الإنسانية دوما تشعر بالحاجة إليه حيث كانت تبحث عن المثل والنماذج العليا للفضائل الإنسانية المفقودة في هذا العالم فلا تراها في أرض الواقع فتقوم بصياغتها في عالم الخيال وتتخذ منها قدوة أو أسوة إنه أي علي بن أبي طالب إمام والإمام يعني القدوة المثالية في جميع أنواع الفضائل المثالية الرفيعة لدى الإنسان وعلى الإنسان أن يصمم حياته على أساس المدينة الفاضلة والإنسان السامي ذي الفضائل الرفيعة) حيث يرى علي شريعتي أن علي بن أبي طالب يقدم هذه القدوة والمثل الأعلى الذي تبحث عنه خيالات البشرية.
وتحت عنوان (عصرنا يفتش عن علي) يتحدث شريعتي عما أسماه بخدعة التشيع الصفوي (الذي انتقل من موقف الرفض للظلمة المعتدين ليتسلم زمام الأمور ويعلو منصة الحكم ومن ثم لم يقل نعم للظلمة المعتدين وحسب بل صار حارسا أمينا لقواعد حكمهم وحاميا للبنى الأساسية والمدافع عن وجود هؤلاء الظلمة) والذي قام بتحريف التشيع العلوي الذي يمكن اختصار مضمونه في (تلك اللا أو الرفض لكل قوة وعدوان وخداع).
ثم يفصل ما يعنيه بالتشيع الصفوي (الذي أخذ يستشري هذه الأيام “كان هذا الكلام قبل أكثر من ثلاثين عاما” (وأنه لم يكن وليد العهد الصفوي بل وجد منذ أن وجد التشيع العلوي غاية أنه اكتسب الرسمية والسيطرة في العهد الصفوي باعتباره اتجاها ومذهبا صنع بصورة التشيع العلوي وإن كان من حيث المحتوى ضده منذ البداية وكان أول من رفع شعار التشيع الصفوي هو أبو سفيان) والقصة مشهورة في كتب التاريخ والرواية لابن أبي الحديد شارح النهج:
(لما قبض رسول الله صلى الله عليه و آله و اشتغل علي عليه السلام بغسله و دفنه وبويع أبو بكر خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بعباس وعلي عليه السلام لإجالة الرأي وتكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج فحل علي عليه السلام حبوته وقال: الصبر حلم والتقوى دين والحجة محمد والطريق الصراط أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة.. أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح هذا ماء آجن ولقمة يغص بها آكلها ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع في غير أرضه فإن أقل يقولوا حرص على الملك وإن أسكت يقولوا جزع من الموت هيهات بعد اللتيا والتي والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه و لكن انطويت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيد) شرح النهج ج1 ص 71. (الأرشية هي الحبل الذي يدلى في البئر).
والمعنى أن أبا سفيان أراد أن يوجد حول الإمام علي نوعا من الاصطفاف السياسي القبلي وليس العقائدي اصطفاف القبائل القرشية الكبرى (بنو أمية وبنو هاشم) ضد القبائل الصغرى وليس اصطفافا حول العدل وضد الظلم.
وتحت عنوان (الوحدة بين الشيعة والسنة لا تعني التنازل عن الحقيقة) يقول شريعتي: أنا لست من أولئك الذين يقولون ينبغي أن لا تطرح هذه القضايا اليوم لأنها تثير الخلاف وتقضي على الوحدة ورغم اعتقادي القوي بالوحدة الإسلامية إلا أنني أومن أن علينا أن لا نغفل لحظة واحدة عن إثبات الحقيقة والإعلان عنها والمبادرة إلى التحقيق والتحليل العلمي الدقيق للواقع التاريخي بعيدا عن العناد… هذه هي الوحدة التي أومن بها أي توحيد المواقف داخل البيت الإسلامي على ما فيه من اختلافات ضد الإمبريالية والصهيونية.
ويستطرد علي شريعتي في تعداد سجايا الإمام علي ومن بينها (الزهد الثوري العبادة التمسك بالعدالة) وهو النموذج الذي اتخذه العرفاء والمرتاضون وأقطاب التصوف أسوة لهم… زهد علي زهد ثوري زهد لا نعرفه نحن .. الزهد الثوري أن تتحمل الفقر لمكافحة الفقر وتصبر على الجوع لتكافح الجوع والتنازل عن الخبز الشخصي من أجل توفير خبز الناس.
ويحكي شريعتي قصة الإمام علي وأخيه عقيل الذي جاء إليه يطلب مالا فوق عطائه المقرر فرفض الإمام والقصة مذكورة في نهج البلاغة حيث يقول الإمام: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أمْلَقَ (أصيب بالفقر) حَتَّى اسْتماحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْث الشُّعُورِ، غُبْرَ الألوان، مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمَعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ، مُفَارِقاً طَرِيقِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَف مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، يَا عَقِيلُ ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَة أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَار سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أَتَئِنُّ مِنَ الأذى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظىً؟.
وأخيرا يطرح رأيه حول الوحدة الإسلامية وأنها لا تعني بالضرورة وحدة الأفهام (لأن الوحدة العلمية فاجعة وموت للعلم ومتى ما سادت الوحدة العلمية ووحدة القوالب العقائدية في أي مجتمع أو دين أو حزب فهي علامة واضحة على وجود الاستبداد الفكري والعقائدي فالمجتمع الحي هو المجتمع الذي تفكر فيه كل العقول وهكذا هم البشر وكل واحد منهم يفكر بشكل من الأشكال وان إعلان مبدأ حرية الفكر وحرية البحث وحرية واستقلال الفهم هو عامل مهم في التقدم والبناء ولو تيسر لهذا المبدأ الاستمرار والدوام في أوساط المسلمين لما تأخرت القفزة الحضارية إلى ثلاثمائة سنة سابقة بل لسبقنا هذا التاريخ بألف عام).
ويختم شريعتي كتابه بالقول: الوحدة الإسلامية بين التشيع والتسنن مستحيلة أما الوحدة بين الشيعة والسنة أمام العدو ففريضة واجبة.
ونود أن نلفت انتباه القارئ إلى أن هذا الكتاب هو عبارة عن سلسلة من المحاضرات التي ألقاها الدكتور علي شريعتي في حسينية إرشاد وأن هذه المحاضرات جاءت في سياق التحضير والإعداد للثورة الإيرانية التي انطلقت بعد استشهاده على يد رجالات المخابرات الشاهنشاهية حيث يتعين علينا أن نفهم كلامه عن التشيع الصفوي والتشيع العلوي في هذا الإطار.
الحديث عن التشيع العلوي في مقابل التشيع الصفوي كان يهدف أساسا إلى تثوير الشيعة في إيران حيث كان هناك ثمة تيار يتبناه بعض علماء الدين يناهض الثورة على الشاه ويرى أن الحكمة والمنطق تقضيان بالبقاء تحت عباءة النظام الشاهنشاهي.
ومن هنا تبرز القيمة الكبرى لحديثه عن توحد الشيعة والسنة في مواجهة الصهيونية والإمبريالية في زمان الشاه وقبضته الحديدية وعلاقاته الوثيقة آنئذ مع الكيان الصهيوني.
التشيع العلوي لا يعني تشيعا جديدا بل هو تمرد على الإطار المراسمي الكهنوتي الذي يكتفي البعض به كبديل عن عملية التجديد الفكري والعقلي الذي يتعين على المنتمين لأي فكر أو عقيدة أو مذهب أن يقوموا به باستمرار وإلا ماتت عقيدتهم واضمحلت وكم من مذاهب وأفكار وعقائد ظهرت ثم ماتت بعد أن تجمدت عقول المنتمين إليها والقائمين بأمرها.
أما المسألة الجوهرية التي افتتح بها شريعتي كتابه وهي قضية النموذج والقدوة والمثل الأعلى فنحن نراها قضية عامة ولا تخص الشيعة وحدهم خاصة إذا كان الكلام يدور حول علي بن أبي طالب وهو من هو بالنسبة لكل المسلمين.
الكتاب الحالي يفتح أذهاننا على مسألتين:
الأولى هي أهمية البحث عن المثل الأعلى الإنساني الذي تتلهف الإنسانية للتأسي به وأننا إن لم نجده على هذه الأرض لاخترعناه في القصص والروايات والأساطير.
أما المسألة الثانية فهي أنسنة الدين والمذهب والعقيدة فهذا هو الهدف الذي تسعى كل الأيديولوجيات لتحقيقه سواء تلك المادية أو الأخروية أو حتى النظريات الاقتصادية.
أنسنة الدين هي الوجه الآخر للنظرية السلطوية السائدة في عالمنا الإسلامي والتي تحاكي في بعض أوجهها النظرية الشيوعية التي تجعل من الإنسان مجرد ترس في آلة الإنتاج المجتمعي فيضحي الإنسان بحرية إرادته وحرية تحركه ويقوم بتسليمها لقوة سلطوية عليا هي الدولة أو الحزب الذي يعمل على زيادة الإنتاج أو تحقيق الاكتفاء الذاتي والخلاصة أن الحقوق الفردية تضيع أو يجري التجاوز عليها لصالح تلك الآلة الأخطبوطية الجبارة التي تشرف على التخطيط والتنفيذ وحتى على التوزيع.
الكتاب الثاني:
تاريخنا المفترى عليه للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي.
هذا الكتاب يقدم النموذج الكلي المعاكس لأطروحة علي شريعتي في كتابه عن الإمام علي.
فالشيخ يقول في هذا الكتاب (وأنا ممن يدافعون عن بني أمية ولا أقبل التهم الجزافية التي تلصق بهم وكثير منها لا يثبت عند التمحيص أو يعطى أكبر من حجمه ولكنني لا أبرئهم من مظالم ارتكبوها وسنن غير راشدة استنوها وهي ما اجتهد عمر بن عبد العزيز أن يغيرها ويضع مكانها سننا صالحة ويزيل المظالم ويرد الحقوق لأهلها ولكنه لم يستطع أن يرد أمر الخلافة إلى الأمة ويحررها من احتكار بني أمية لأن الأمر كان أكبر من طاقته) ص84
كما أنه يرى أن من واجب الدعاة إلى عبادة الله الواحد الأحد أن ينزهوا بني أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان عن كل العيوب والنقائص وألا يصدقوا ما ذكرته كتب التاريخ عن بني أمية المفترى عليهم رغم أن الكثير ممن وقعوا في هذا (المطب) هم من كبار علماء ومنظري أهل السنة من أمثال أبي الأعلى المودودي والشيخ الغزالي وسيد قطب فيقول (ومما يعجب له المرء ويأسف له أيضا أن يقع الدعاة في هذا المأزق الحرج ويصدقوا كل ما قيل عن بني أمية حتى ربما أصابت نباله من الخليفة الثالث ذي النورين صهر الرسول الذي تستحي منه الملائكة أحد السابقين الأولين من المهاجرين عثمان رضي الله عنه ومن هؤلاء الإمام أبو الأعلى المودودي وكذلك الأديب الكبير والداعية المفكر والمجاهد الصلب الشهيد سيد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام الذي حمل فيه على بني أمية حملة عنيفة حتى جردهم أو كاد أن يجردهم من اعتبار العنصر الأخلاقي في سياستهم وتعاملهم مما أثار عليه ثائرة العلماء في مصر وغيرها وهناك أيضا الشيخ محمد الغزالي في كتابه الإسلام والاستبداد السياسي الذي قال عن يزيد بن معاوية أنه لا يصلح لإدارة مدرسة ابتدائية وصوب سنان قلمه إلى بني أمية بصفة عامة) ص82-83.
وهو يستميت من أجل تبرئة هؤلاء فيقول أن بني أمية (رضي الله عنهم!!) قد حاربوا دفاعا عن الإسلام على عدة جبهات فكان أن (نصرهم الله!!) (فهل من سنن الله في خلقه أن ينصر دولة منحرفة أو دولة ظالمة ويمكن لها في الأرض؟ إنه من سنن الله تعالى ما عبر عنه القرآن “إنه لا يفلح الظالمون” “وقد خاب من حمل ظلما”).
ولا يكتفي الشيخ بالتبرئة الإجمالية لبني أمية بل يبذل مجهودا خارقا لإسقاط التهم والافتراءات الموجهة إليهم واحدا تلو الآخر فيقول: (ولنحاول أن نلقي نظرة عادلة متوازنة على تاريخ بني أمية مبتدئين بسيرة مؤسس الدولة معاوية بن أبي سفيان وهو ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وآله فنالته بركة الصحبة)!!! ص85.
وفي نفس الإطار فقد أخذ الشيخ في سرد ما أسماه فضائل معاوية من كتب الأحاديث ثم عاد وهدم كل ما بناه عندما نقل عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال (سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال اعلم أن عليا كان له كثير من الأعداء ففتش أعداؤه له عيبا فلم يجدوا فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيدا منهم لعلي فأشار إلى ما اختلقوه لمعاوية من فضائل مما لا أصل له.. وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة ليس فيها ما يصح من ناحية الإسناد وبذلك جزم إسحاق بن راهوية والنسائي) ص88.
ثم نواصل قراءة مرافعة الشيخ عن بني أمية فيقول (ومن نظر في سيرة معاوية بعد أن آلت إليه الخلافة وبعد أن تنازل الحسن السبط عنها وتأمل هذه السيرة بإنصاف وجد الرجل حريصا على إقامة الإسلام في شعائره وشرائعه وعلى اتباع السنة النبوية في مجالات الحياة المختلفة) ص88.
(فهو يراعي إقامة السنة في حياة الناس في الأمور كلها أمور الفرد وأمور الأسرة وأمور الجماعة) ص89.
(والحق أننا إذا نظرنا إلى خليفة وحاكم مثل معاوية بن أبي سفيان نجده من أعظم حكام العالم وأقربهم إلى العدل والحكمة وإنما نزلت مرتبته لمقارنته بمثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في مثاليتهما الرفيعة ولأنه انحرف بالحكم عن سنة الخلافة الراشدة من ترك المسلمين يختارون لأنفسهم أو استخلاف أحد من غير عصبته) ص92-93.
(وقد ورد عن الحسن البصري أنه كان ينقم على معاوية أربعة أشياء: قتاله عليا وقتله حجر بن عدي واستلحاقه زياد بن أبيه ومبايعته ليزيد ابنه ونحن مع الحسن في إنكاره هذه الأمور الأربعة وإن لم تكن كلها في درجة واحدة فأما قتاله عليا فلا ريب أنه كان باغيا عليه وقد ثبت ذلك بالحديث الصحيح وهو قوله عليه الصلاة والسلام لعمار تقتلك الفئة الباغية وكان الذي قتله هو معاوية ورجاله.. قيل لشريح القاضي كان معاوية حليما؟؟ قال ليس بحليم من سفه الحق وقاتل عليا) ص93.
(وأما قتل حجر بن عدي فنحن لا نقره عليه…).
(وأما أخذه البيعة ليزيد في حياته وتوريثه الملك لذريته فهذه هي التي حولت الخلافة الإسلامية إلى كسروية أو قيصرية..ولا غرو أن نقل السيد محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي عن أحد كبار علماء الألمان أنه قال لبعض علماء المسلمين: إنه ينبغي لنا أن نقيم تمثالا من الذهب لمعاوية في عاصمتنا برلين لأنه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغالب ولولا ذلك لعم الإسلام العالم كله ولكنا نحن الألمان وسائر شعوب أوربا عربا ومسلمين) ص94-95
ثم يقول الشيخ (ومع كل هذا فلم يكن معاوية بالصورة السيئة التي صورها الكثيرون وهذا ما جعل رجلا في وزن ابن خلدون حكيم المؤرخين ومؤسس علم الاجتماع يقول في تاريخه “وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدولة الخلفاء وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة) ص98.
ولا يكتفي الشيخ بأن يقول كلمته أو بمعنى أدق مرافعته العصماء عن هؤلاء ثم يمضي بل يذهب إلى ما هو أبعد من هذا عندما يطالب بتعميم منهجه هذا على كل من يقوم بالتصدي لقراءة أو كتابة التاريخ فيقول (ينبغي ألا يكون المؤرخ متناقضا في مفاهيمه ومعتقداته فيؤمن بالشيء ونقيضه ويقبل روايات تاريخية يرفضها منطق الدين الذي يؤمن به كأن يقبل روايات واهية تشوه عصر الصحابة والتابعين الذين جاءت صحاح الأحاديث تبين أنهما من خير القرون).
لقد وفر علينا الشيخ الكثير من الجهد عندما نقل لنا رأي العلماء والمفكرين الألمان الذين يرون في معاوية ابن أبي سفيان أفضل من خدم المناهضين والكارهين والخائفين من الإسلام عندما فعل بالمسلمين ما فعل فكانت الثمرة انحسار المد الإسلامي بل وتراجعه في كثير من الأحيان وفي كثير من المناطق التي كان قد وصل إليها لسبب جوهري هو افتقار المسلمين إلى نموذج أخلاقي ثابت ومتماسك يرجعون إليه وهو عين ما نراه الآن في واقعنا المعاصر من حروب واقتتال داخل ومذهبي ناهيك عن أن أصدقاءنا الألمان قاموا بتشخيص علتنا بدقة وهي أن القمع والاستبداد والتسلط التي أرسى دعائمها السيد معاوية هي التي قادتنا إلى التخلف والانحطاط الحضاري والشلل الفكري وهو عكس ما يدعو إليه علي شريعتي من حرية للفكر واحترام للتعدد والتنوع وهي وحدها القادرة على تحقيق الوحدة الإسلامية والتماسك بين المسلمين.
ولن نذهب بعيدا عن تلك القضية الأساسية وهي قضية النموذج والمثل عندما يفاجئنا الشيخ القرضاوي في كتابه بإعلانه معاوية بن أبي سفيان واحدا من أعظم حكام العالم وهو ما يقودنا إلى الحديث عن أمرين:
الأول: أن المفهوم الذي يقدمه الشيخ هو المناقض لأنسنة الدين بمعنى أن الإسلام الأموي قد أصبح من الناحية التطبيقية شيئا مشابها للشيوعية حيث يدور الجميع في دائرة واحدة تهدف لخدمة الغرض الأسمى وهو حراسة دولة الشعار الإسلامي أو دولة الخلافة الإسلامية حيث أصبح الفرد المسلم مجرد رقم في لائحة هذه الدولة وخادما لها بل ويمكن التضحية به من أجل إقامة هذه الدولة دولة الشعار وليس دولة القيم الإسلامية التي توجب العدل وتقرر المساواة بين البشر وتحرم سفك دمائهم إلا بالحق.
بينما يدافع شيخنا ويبرر بأن معاوية كان من أعظم حكام العالم لأنه (جلب الاستقرار ومد الحدود وسد الثغور وقام بالفتوحات وليس من القوانين الإلهية أن ينصر الله الظالمين) رغم أنه انتهك كرامة الإنسان وداس على كل الحرمات ورغم أنه أقر نقلا عن علمائه الألمان أن هذا الهدف ألا وهو الفتوحات وهو العذر الوحيد الذي قدمه الشيخ لمعاوية لم يصمد طويلا ولم يحقق نتائج ثابتة على الأرض بسبب الظلم والاستبداد والقمع الداخلي.
أما الثاني فيتعلق بالنموذج والقدوة والمثل الأعلى الذي يقدمه شيوخنا لأبناء الأمة الإسلامية في صحوتها المباركة وهو نموذج (قتل ولكن سرق ولكن ظلم ولكن انتهك ولكن!!).
العالم الغربي يتنازعه تياران: التيار الأول هو تيار النموذج الديني المسيحي الذي يقدم المسيح كنموذج للخلاص البشري والتيار الثاني هو تيار الفلسفة الوضعية الذي يسعى هو الآخر لتقديم نموذجه للخير والكمال والحرية والجمال ولذا فقد استطاع أن ينهض ويتقدم ويرقى كونه قد استطاع في النهاية أن يقدم نموذجا إيجابيا أما نحن فما زالت الكلمة العليا لنموذج قتل ولكن!! سرق ولكن!! قدم أبشع صورة للإسلام وحال دون انتشاره حتى أن الألمان كانوا على وشك إقامة تمثال له في قلب العاصمة الألمانية ولكن!! كذب ولكن!! ولكن!! بل أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد دعا عليه ألا يشبع الله بطنه فكان يأكل ولا يشبع ولكن الشيخ يرى في كتابه تاريخنا المفترى عليه أو معاوية المفترى عليه!! أن ذلك مكرمة وفضيلة لحاكم مسلم كان يأكل ولا يشبع بينما يموت آلاف المسلمين قديما وحديثا لأنهم لا يجدون ما يسد رمقهم ولكن!! وبالرغم من كل هذا فهو واحد من أعظم حكام العالم.
وحسبك عارا أن تعيش ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد!!.
وفي النهاية يمكننا القول أننا نملك عقلا ولكننا لا نقدر على استخدامه!!.
ونملك أروع النماذج ولكننا لا نقدر على التأسي بهم أو تقديم سيرتهم للناس ولو حتى على سبيل القصص والتسلية!!.
الكتاب الثالث هو الولاية والنبوة عند الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في كتابه الولاية والنبوة عند الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي ط دار الشروق من تأليف (علي شود كيفيتش) وترجمة الدكتور أحمد الطيب:
وقبل أن نطالع الكتاب نحتاج لتعريف القارئ الكريم بالشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الذي ولد في الأندلس سنة 560 للهجرة حيث أمضى طفولته في أشبيلية ثم انطلق منها ناحية المشرق العربي إلى القاهرة ومنها إلى بيت المقدس وقد خطب وده الأمراء والوجهاء فضلا عن الفقهاء والعلماء وتزامن وجوده ونشاطه مع ابن تيميه الذي شن عليه حملة لا هوادة فيها.
والمهم أن هذا العصر المملوكي الأيوبي كان عصر ازدهار حركة التصوف لأن (الأيوبيين والمماليك والمغول كانوا بانتظام أنصار الأولياء وحماتهم سواء كانوا من الأحياء أم من الأموات).
لقد كانت هذه الحقبة التاريخية بحق هي العصر الذهبي لازدهار التصوف وفيها كان أبو الحسن الشاذلي وابن عطاء الله السكندري والشيخ المنبجي.
ثم يذكر لنا المؤلف أن الشيخ ابن عربي هو اول من قدم تنظيرا متكاملا لنظرية الولاية حيث نراه يعرف الأولياء: بأنهم الذين تولاهم الله بنصرته في مقام مجاهدتهم الأعداء الأربعة الهوى والنفس والدنيا والشيطان كما أن المعرفة والحب أمران متلازمان في الولاية ولا ينفصم أحدهما عن الآخر.
(وتطالعنا في الفصل الرابع عشر من الفصوص وهو “فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية” إشارات بالغة الأهمية في موضوع الولاية يقول فيها ابن عربي واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام ولهذا فهي لم تنقطع وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة وفي محمد قد انقطعت فلا نبي بعده يعني مشرعا أو مشرعا له ولا رسول وهو المشرع…) ص75.
الولاية عند ابن عربي هي وراثة النبوة (العلماء ورثة الأنبياء) ثم يقول (واعلم أن النبوة والولاية تشتركان في ثلاثة أشياء, الواحد في العلم من غير تعلم كسبي والثاني في الفعل بالهمة فيما جرت العادة ألا يفعل إلا بالجسم أو لا قدرة للجسم عليه والثالث في رؤية عالم الخيال في الحس).
وفي هامش ص 74 يقول المؤلف (يذكر كوربان خطأ أن تاريخ هذه الرؤية هو العاشر من محرم مما يدل دلالة واضحة على وقوع كوربان في أسر هاجس يستبد به ويدفعه إلى محاولة اكتشاف دلالات ذات صبغة شيعية خصوصا مفهوم الإمامة في قضايا التصوف ثم “تشويه” تلك المفاهيم بسبب هذا الخلط وثمة محاولة أخرى مماثلة تجدها في كتاب الصلة بين التشيع والتصوف للدكتور مصطفى الشيبي ونحن لا ننكر وجود صلات أو علاقات تأثير وتأثر متبادلة بين التصوف والتشيع على مستوى المصطلحات والمفاهيم وإن نفي هذه العلاقة بين التصوف والتشيع أمر غير مقبول وهي علاقات متبادلة بين الجانبين).
والشاهد أن العرفاء والمتصوّفة يرون أهمية وجود الإنسان الكامل أو الولي وأن لكل عصر وليّاً قائما، وإنّ في كل عهد إنساناً كاملاً يكون حاملاً للمعنوية الإنسانية العامة ولا يخلو زمان أبدا من الوليّ الكامل الذي يعبر عنه أحيانا بالقطب.
وأن لهذا الولي الكامل مقاماتٍ بعيدة كل البعد عن أذهاننا ومن بين المقامات التي تذكر له تسلّطه على الضمائر أي القلوب انطلاقا من كونه روحا كلية يحيط بجميع الأرواح.
الخلاصة:
البحث عن الكمال الإنساني الأخلاقي هو هدف إنساني نبيل يلتقي عليه كل من عرف معنى الإنسانية ومعنى الفضائل والأخلاق ويسعى الجميع للبحث عنه وتقديمه للبشرية التي تحتاج دائما إلى مثل هذه القدوة لتحذو حذوها.
البشرية كلها تسعى لتقديم هذا المثال خاصة إذا كان متطابقا مع النهج العقائدي أو الديني للأمة التي يجري التحدث إليها.
ولو افترضنا أننا نختلف مع المتصوفة في اعتمادهم على الذوق أكثر من اعتمادهم على النص إلا أننا لا نختلف معهم حول أهمية أن يسعى الفرد أو المجتمع لبلوغ الكمال عن طريق إخلاص العبادة لله.
إلا أن عجبنا لا ينقضي من أولئك الذين يصرون على تقديم تلك النماذج المتدنية على طريقة قتل ولكن سرق ولكن ظلم ولكن!!.
دكتور أحمد راسم النفيس.
3-7-2005.