دراسات النفيس

دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الفاطميون والتعددية الدينية الجزء الثاني

اليهود والنصارى في الدولة الفاطمية

 

دكتور أحمد راسم النفيس يكتب: الفاطميون والتعددية الدينية الجزء الثاني

اليهود والنصارى في الدولة الفاطمية

يروي المقريزي في اتعاظ الحنفا نقلا عن ابن الأثير أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله‏:‏

(قيل) إنه ولي عيسى بن نسطورس النصراني كتابته واستناب بالشام يهوديا اسمه منشا إبراهيم بن القزاز فاعتز بهما النصارى واليهود وآذوا المسلمين فعمد أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في يد صورة عملوها من قراطيس فيها‏:‏ بالذي أعز اليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي‏ وأقعدوا تلك الصورة على طريق العزيز والرقعة بيدها فلما رآها أمر بأخذها فإذا الصورة من قراطيس فعلم ما أريد بذلك فقبض عليهما وأخذ من عيسى بن نسطورس ثلاثمائة ألف دينار ومن اليهودي شيئاً كثيراً‏.‏

والمعنى أن الانتماء لغير الإسلام لم يكن مانعا لليهود والنصارى من التعيين في الوظائف الرسمية رغم أن الطبائع الذاتية يمكن أن تحمل بعض هؤلاء على إساءة استخدام السلطة أو الانحياز لغير الحق إلا أن أحدا من هؤلاء لم يكن فوق مستوى المحاسبة كما يصور بعض الأغبياء الذين يعرضون مثل هذه الحوادث كدليل على تنكر الفاطميين للإسلام والدين.

الاحتفال بأعياد النصارى

ذكر المقريزي في الخطط ج2:

قال المسبحي‏:‏ في سنة ثمان وثمانين وثلثمائة‏:‏ كان غطاس النصارى فضربت الخيام والمضارب والأشرعة في عدة مواضع على شاطئ النيل فنصبت أسرة للرئيس فهد ابن إبراهيم النصراني كاتب الأستاذ برجوان وأوقدت له الشموع والمشاعل وحضر المغنون والملهون وجلس مع أهله يشرب إلى أن كان وقت الغطاس فغطس وانصرف‏.‏

وقال‏:‏ في سنة خمس عشرة وأربعمائة وفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة كان غطاس النصارى فجرى الرسم من الناس في شراء الفواكه والضأن وغيره ونزل أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم لقصر جده العزيز بالله بمصر لنظرالغطاس ومعه الحرم وضرب بدر الدولة الخادم الأسود متولي الشرطتين خيمة عند الجسر وجلس فيها وأمرالخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بأن توقد المشاعل والنار في الليل فكان وقيدًاكثيرًا وحضر الرهبان والقسوس بالصلبان والنيران فقسسوا هناك طويلًا إلى أن غطسوا‏.‏

وقال ابن المأمون‏:‏ إنه كان من رسوم الدولة أنه يفرق على سائر أهل الدولة الترنج والنارنج والليمون المراكبي وأطنان القصب والسمك والبوري برسوم مقررةلكل واحد من أرباب السيوف والأقلام‏.‏

الاحتفال بخميس العهد‏:‏  ويسميه أهل مصر من العامة‏:‏ خميس العدس ويعمله نصارى مصر قبل الفصح بثلاثة أيام ويتهادون فيه وكان من جملة رسوم الدولة الفاطمية في خميس العدس (تقاليد الدولة) ضرب خمسمائة دينار ذهبًا عشرة آلاف خروبة وتفرقتها على جميع أرباب الرسوم كما تقدم‏.‏

القضاء على الفاطميين وصعود النموذج الداعشي

الآن وبعد كل هذه القرون ما زال الوهابيون يثيرون الجدل رفضا لتهنئة المسيحيين بأعيادهم استنادا للفتاوى التي أصدرها مشايخ الفتنة من قبل وما زالوا مصرين عليها، كما أن الدولة المصرية لا تشارك الأقباط احتفالهم بأي من أعيادهم باستثناء عيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام وهو أمر محدث لم يكن له وجود قبل أقل من عقدين من الزمان.

الدولة المصرية المعاصرة لا توزع الحلوى بهذه المناسبة أو غيرها ولا تعطي الناس منحا للتوسيع على الناس وإضافة لمزيد من البهجة على نفوسهم.

لا يكف الوهابيون الذين تسعى النظم الحاكمة لاسترضائهم عبر حرمان الناس من أبسط حقوقهم الإنسانية – خاصة الشيعة- مثل حق الاعتقاد فما بالك بحق البهجة ومشاركة الآخرين في أفراحهم عن إثارة الرعب وتوزيع الفزع بين الناس بالتساوي وهذا هو النوع الوحيد من العدل الذي يؤمن به هؤلاء الهمج.

مشاركة الآخر في البهجة بالأعياد لا تعني بحال تطابقا عقائديا بل تعني تشاركا إنسانيا فالإنسان السوي الباقي على إنسانيته يفرح لفرح الآخرين فكلنا نعيش على أرض واحدة نعمرها بالسعي والعمل.

أحال صلاح الدين الأيوبي مصر كلها إلى أنقاض وركام واستدعى النموذج الداعشي الذي يتساءل الناس الآن في حيرة كيف ومن أين جاء، دون أن يساعدهم أحد على فهم هذا التحول الكارثي وكيف حلت الكراهية والرغبة الجامحة في القتل وإبادة الآخر محل هذا التسامح وكيف تحولت مصر من مركز للحضارة والتسامح لمصدر رئيس ينطلق منه الإرهاب والتدعش والتوحش؟!.

يصف باحث سعودي (مبتهج) هذه الكارثة بقوله:

“واختفى في ذلك العصر (الأيوبي) الاحتفال الرسمي بمواسم النصارى وأعيادهم حيث كان الفاطميون يشاركونهم أعيادهم فاختفت هذه المشاركة الرسمية من الدولة حيث كان الفاطميون يضربون في هذا العيد خراريب من ذهب ويفرقونها على أرباب الدولة برسم التبرك بها فبطل ذلك في دولة صلاح الدين إلا أن عدم المشاركة الرسمية لا يعني اختفاؤها من الحياة الاجتماعية إذ أن أهلها ظلوا يحتفلون بها”[1].

أما المؤرخ المصري الدكتور عبد المنعم ماجد فيقول:

أما حقيقة موقف المصريين من إنهاء الخلافة الفاطمية فقد كان له وقع ألم وأسى بحيث أن تغري بردي يقول: إن نفوس المصريين كادت تزهق لانتهاء دولة الفاطميين ولا ريب فهذه الخلافة الفاطمية كان قد أحبها المصريون لأنها جعلت من مصر دولة مستقلة استقلالا تاما لا يحكمها ولاة معينون من بغداد أو من دمشق كما كان الحال من قبل فنبهت بذلك إلى مركز مصر في دار الإسلام ولم ينس المصريون أن الفاطميين جاءوا للجهاد وأنهم قاموا بدور هام في الدفاع عن الإسلام بصد البيزنطيين اليونان الذين بدأوا الحروب الصليبية كما كانت الخلافة الفاطمية تعتمد في دواوينها على المصريين سواء كانوا من المسلمين أو القبط الذين تولوا أعلى مناصبها بما فيها الوزارة.

وأخيرا فإن الخلافة الفاطمية في مصر كانت أعيادا متواصلة مما لا يعرف له مثيل من قبل ليس فقط للمسلمين من أهلها وإنما أيضا للقبط بحيث أنها في أعياد القبط كانت تطلق المأكولات والملابس والأموال للموظفين القبط والمسلمين ليكون الابتهاج عاما وأنها كانت تقوم بسك دنانير خاصة بها كما كانت تفعل في أعياد المسلمين لذلك اعتبرها المصريون دولتهم حتى أن معظم المؤرخين أجمعوا على تسميتها دولة المصريين.

من ناحية أخرى كان سقوط الخلافة الفاطمية يعني عند المصريين أن مركز بلادهم قد ضعف بعودتها ولاية تابعة للعباسيين وخضوعهم لجنس أجنبي عنهم وهم الغز أي الترك حيث ألف ابن الجوزي المؤرخ العراقي المتعصب كتابا سماه (النصر على مصر) وكان سقوط مصر يعني الخضوع لصلاح الدين الكردي المستبد الذي استبعد في وزارته رجال مصر وأخرجهم من الوظائف والجيش وأنزل رجاله في بيوتهم وهم أيضا بإخراج القبط من الدواوين لولا خوفه من توقف دولاب العمل وكذلك قدروا أن عصر الرخاء قد زال بزوال الفاطميين لأن أموال مصر وخيراتها تخرج للترك الغرباء في مصر والشام وأحسوا باختفاء العملة الذهبية والفضية من التداول منذ مجيء صلاح الدين وظهر بدلا منها عملة رديئة هي الفلوس وهي من النحاس المخلوط بالفضة فكان العثور على دينار ذهب أحمر أشبه ببشارة من الجنة مع أن الفلوس كانت تعتبر زمن الفاطميين عملة غير قانونية[2].

مما سبق يتبين لنا أن الدولة الفاطمية شكلت نموذجا للتعايش بين أبناء الأديان والمذاهب المختلفة ضمن دولة تجمع ولا تفرق بين أبنائها لأسباب واهية وهو النموذج الداعشي الذي أسسه صلاح الدين الأيوبي على خطى أسلافه العباسيين والأمويين.

لم تبدأ مصيبة المسلمين مع الإرهاب مع ظهور داعش كما يعتقد البعض فالمصيبة أعظم وأقدم من هذا والسبب الأساس لهذا البلاء هو الكراهية والرفض لكل ما يمت لأهل البيت بسبب أو ارتباط سواء كان التشيع إسماعيليا أو إماميا أو حتى زيديا كان يوصف حتى الأمس القريب بأنه الأقرب (لأهل السنة والجماعة).

أقرب!!

ليكن الأقرب أو حتى الأشد قربا لكنه ليس مسموحا له الإمساك بأي سلطة!!.

لا زالت العنصرية (الإسلامية) ونعني بها تلك الحالة المرضية التي تتلبس أدعياء الانتساب إلى الإسلام البعيدين كل البعد عن قيمه ومبادئه تحكم وتتحكم فيهم.

القرآن يقول لا تقتل وهم يقتلون كل من خالفهم فرديا وجماعيا دون خوف أو وجل.

القرآن يقول (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[3].

بينما هم ينفذون حملات السخرية والغمز واللمز وينفقون عليها المليارات لنفي الشيعة من الإسلام بل ويدفعون مئات المليارات لترامب ونتنياهو لمحاربة الشيعة وإبادتهم!!.

وإلى أن يعود للعرب عوازب أحلامهم ستستمر أحوالهم في التدهور من سيء إلى سيء.

دكتور أحمد راسم النفيس

‏18‏/07‏/2017

‏الثلاثاء‏، 24‏ شوال‏، 1438

 

[1] عمران القاهرة وخططها في عهد صلاح الدين الأيوبي. عدنان محمد فايز الحارثي. مكتبة زهراء الشرق القاهرة. ص 111-130 باختصار.

 

[2] المصريون والتشيع الممنوع, ص 132-133 د أحمد راسم النفيس دار المحجة البيضاء بيروت 2010.

[3] الحجرات 10-11.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى